تهللت أساريري عندما صادفت صديقي المتدين الذي لم أرَه منذ سنين في الشارع، أقبلت عليه وتعانقنا، ثم دعوته أن نتجه معاً إلى المقهى الذي شهد أيام صبانا فوافق، جلسنا وطلبنا الشاي ثم دار بيننا الحوار التالي:
– كيف حالك يا صديقي المتدين؟
سألته فأجاب مبتسماً ابتسامته التي طالما اعتدتها منه:
– بخير والحمد لله.. لكنك تعرف أني لا أحب لقب "متدين" هذا.
– لماذا؟ أليس هذا سبب إطلاقك اللحية وتقصيرك لبنطالك؟!
قلتها مداعباً فضحك:
– كعادتك تريد أن تصبغ المتدين الحق بصبغة التدين المظهري فقط، أولاً: هي ليست أشياء مظهرية، بل هي فرائض أو على أقل تقدير واجبات. ثانياً: ما يبدو لك مجرد مظهر هو ينبئ عما بداخل المرء، ذلك لأن من يلتزم به رغم ما قد يحمله هذا من مشقة يعني أن الشخص جاهد نفسه في سبيل إيمانه، وهذه من شيم التدين الحق.. ألا ترى إذاً أن تسفيهك لهذا هو محاولة بائسة منك لتبرير عدم وجود نفس القدرة لديك؟!
– وما الصعب في أن أطلق لحيتي مثلك أو أن أقصر بنطالي؟ الفكرة أني لست مقتنعاً بأن هذه فرائض أو واجبات كما تقول أنت، مما يعني أنه من وجهة نظري أنت مبتدع في الدين.
صدمه قولي الأخير واتسعت عيناه رعباً، وكأني ذبحت خالته، لكنه نفض الفكرة سريعاً من رأسه وسارع يجيب:
– المشايخ الثقات أمثال الشيخ "أبو عقدة"، أكدوا أن الأمة أجمعت على هذا حتى لا نتشبّه بغير المسلمين.
– يا أخي فلتقطع ذراعاً أو قدماً إذاً حتى لا تتشبّه بهم.. ثم أليست هذه الأمة التي أجمعت في ظروف غامضة مكونة من رجال يخطئون؟!
– الرجال يخطئون لكن الإجماع معصوم.
– يا لَلمصيبة.. ألم تجمع تلك الأمة والعالم أجمع في يوم من الأيام على أن الأرض ثابتة في مركز الكون؟! هل عصمهم إجماعهم وقتها؟
– هذا شيء مختلف.. فالإجماع معصوم في أمور الدين.. لكن سوف أجاريك وأسلم أن إطلاق اللحية وتقصير البنطال ليسا من الواجبات، هل تنكر قوله تعالى: "لقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا" (الأحزاب: 21)؟
– الأسوة الحسنة في الأخلاق يا صديقي.. لا علاقة لها بالمظهر أو الثياب.
– كيف جزمت بهذا؟
– جزمت لأن المظهر من متغيرات الزمن أما الأخلاق فلا.. هل تظن مثلاً أن الرسول لو كان يعيش في زمننا هذا، كان سيرتدي زياً مختلفاً عن باقي الرجال؟
بدأ الضجر يظهر على ملامحه.
– على أي حال، أنا أفعل هذا مستحضراً نية أني أفعله اقتداء بالرسول.. إذاً سأجازى الثواب على نيتي، ولكن على أسوأ تقدير، إن لم أجازَ فلن أذنب كذلك.
– المشكلة يا صديقي أن هذا التمسك بالمظهر يشغلك عن مضمون الدين، فهو يضعك في بقعة مريحة من الرضا الوهمي عن نفسك.. وعندما تنظر لنفسك في المرآة يومياً أو يدعوك أحد ما في الشارع بلقب "يا شيخ"، يتجدد داخلك هذا الإحساس المريح الذي أمامه لا تملك إلا أن تنظر بنوع من الدونية إلى غيرك غير الملتزم بنفس هذا المظهر، سوف تنكر هذا ولكن إن صدقت مع نفسك ستعترف أنك تجدني على سبيل المثال غير أهل أن أتحدث في أمور الدين والمسألة لا علاقة لها بما إذا كنت قد حصلت على شهادة دينية أم لا، فكم من مشايخ لم يدرسوا يوماً في جامعات دينية مثل الشيخ "أبو عقدة" هذا.. أيضاً لا علاقة للمسألة بعدد الكتب التي قرأتها أو صفات أخرى كالذكاء أو الفطنة أو القدرة على التحصيل.. كل هذا لا يساوي شيئاً أمام اللحية والجلباب والعمامة.. بالتأكيد لا أستطيع أن ألومك أنت على هذا، فالمجتمع كله ساهم في تعريف من ندعوهم بالـ"ثقات" في أمور الدين من الناحية الشكلية فقط متجاهلاً أي شيء آخر.
ثم غمزته مستطرداً:
– لا تنكر مثلا أن هناك العديد ممن يقبلون عليك دون سابق معرفة ليسألوك في أمور دينية، فقط لأنهم يرون لحيتك.
ابتسم دون أن يجيب، فتابعت:
– الحقيقة يا صديقي أن هذا التسطيح لشكل المتدين امتد إلى تسطيح للدين نفسه.. أراهنك مثلاً أن دروس شيخك "أبو عقدة" تتمحور حول مواضيع محددة كالفوائد الصحية للتمر، وكيف يحل تعدد الزوجات مشاكل مجتمعنا، وشكل قصورنا في الجنة دون أن ينسى بالطبع إلقاء بعض اللعنات اللطيفة على الشيعة واليهود.. نلمس هذا التسطيح الديني كذلك في البرامج الدينية التي هي خير شاهد على ما يمثله الدين بالنسبة لعموم الناس، فالدين عندهم هو "إذا اغتصب جني إنسية فهل تحمل منه؟"، أو "كيف أتخلص من العمل الذي دبرته لي ابنة أخت بنت خالة زوج ابنتي؟"، أو "أظن أن البقال هو المسيح الدجال، فهل أقتله؟".
قهقه صديقي لقصة البقال فابتسمت مكملاً فكرتي:
– كلها أشياء تافهة سطحية لا تقترب من جوهر الدين، وهو مبادئه الروحية أياً كان شكلها، فهذه المبادئ هي التي تعطي الدين معناه وتسمو بحياة البشر.
في عناد مرح رد صديقي:
– يا أخي، ألا ترى أنك "محبّكها شوية"؟ لماذا أنت مهتاج هكذا على مشاكل قد تكون بالنسبة لك سطحية، ولكنها بالنسبة للآخرين هامة؟ لا أظن أن الدين سينهار نتيجة لهذا بأي حال.
– يا صديقي الأديان لا تنهار، البشر هم من ينهارون.. وهذا ما يحدث لهم عندما يسطحون دور الدين الإيجابي في حياتهم، لكن توجد مشكلة حتى أكبر من هذا وهي أن الاهتمام بالخارج على حساب الداخل ليس مجرد عيب اجتماعي حميد، بل إنه جزء من منظومة فكرية تبدأ به وتنتهي إلى التطرف الكامل، فهؤلاء الذين يثقون في الشيخ فلان لشكله الديني المألوف يصبحون عرضة لتلقي أفكاره الدينية برحابة صدر كبيرة إلى درجة حتى الدفاع عنها بحماس أمام المعارضين، فعندما يقول هذا الشيخ: "لا تهنئ المسيحي بعيده"، سيرد تابعوه بـ: "اللاااااااه"، وعندما يقول: "الكاتب فلان ارتدّ بسبب مقالاته ورواياته"، سيردون: "صدقت يا شيخنا.. كفر الزنديق".. هل تظن أنه بحاجة بعد ذلك إلى تحريض مباشر على القتل؟
– هنا أنت تبالغ صراحة.. أتظنني مثلاً عرضة للتطرف أو قادر على أذية غيري؟ ظننتك تعرفني وتعرف أخلاقي.
– بالتأكيد أنا لا أعنيك أنت بالذات، ولكن البذرة موجودة يا صديقي وليست بحاجة لكلب بوليسي ليشم رائحتها، وهذه البذرة وإن لم تكن قوية فيك، فهي ستنتقل لأولادك ومنهم إلى أحفادك وهكذا إلى أن تجد التربة التي تكبر وتترعرع فيها.. الحل إذاً ليس أن نغمض أعيننا، بل أن نعترف بوجود المشكلة ثم نسعى جاهدين إلى اقتلاع هذه البذرة اللعينة التي اكتوينا بها.
هنا انتهى حواري مع صديقي المتدين، وكنت أتمنى أن أخبرك عزيزي القارئ أن صديقي اقتنع وغادر الجلسة وكله حماس للقيام بتغيير جذري في حياته، ولكن الدنيا علمتنا أن البساطة ليست طريقها، وأن مقاومة التغيير لدى البشر أقوى من أي تعقل، فلا نملك إذاً سوى التمنّي.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.