العدالة في الحزن

تبدو كأنها ردٌّ على نزار قباني. ولكني توقفت كثيراً أمام هذا الحزن الذي يبدو أنه رفيقها الدائم، لا يغادر، وهي تعتبره جزءاً خاصاً من هويتها لا تشاركه أي أحد؛ هل من قوَّتها؟ أم من شدة خوفها أن تنكسر أمامه حين تُظهر له ألمها وحزنها؟ ولماذا يتميز هذا الحزن إلى هذا الحد؟ ولماذا لا تفتح له الباب ليغادر؟ وكيف يكون عندها في مقام الحرية؟

عربي بوست
تم النشر: 2017/03/13 الساعة 01:55 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/03/13 الساعة 01:55 بتوقيت غرينتش

أعتقد أني أقضي أسعد لحظات يومي وأنا أقود السيارة وحدي في شوارع غير مزدحمة (وهذا من حسن حظي) بينما أسمع أغنياتي المفضلة. وقد يكون هذا خبراً غير سعيد في حد ذاته- ماذا حدث لحياتي حتى تصبح هذه هي أحلى لحظات يومي؟ ولكن قد يشبه هذا أمر أزمة الشرق الأوسط أو وصفة طعام كل أم عربية- لا إجابة ولا سبيل لتكرار النتائج.

ولكن الواقع على أية حال، هو أن هذه اللحظات هي من بين الأسعد التي أعيشها. كما أنها -لزيادة الطين بِلة- من أكثر اللحظات التي أشعر فيها بأني أتحرر من كل شيء يقيدني.

لذا، فهي وقت محبب للتفكير في شتى الأمور. من بين أغنياتي المفضلة، واحدة للمطربة الأميركية ميلودي غاردوت بعنوان "سو وي ميت آغين" (وترجمتها: ها نحن نتقابل مجدداً)، والتي لا تخاطب فيها حبيبها أو أصدقاءها القدامى، وإنما حزنها الدفين. أو كما تسميه هي: ألم قلبها. تدعوه ليجلس معها كالصديق القديم، كالحب العائد، كالحنين، تقول له: تعالَ فمكانك لا يزال موجوداً ينتظرك، وقد ألفتك ساكناً فيه. لا داعي للفزع، فأنا أعرفك، وغضُّ الطرف عنك لن يجدي، فهيا ادخل. وتدعوه وكأنها مبتسمة، أكاد أراها تربت يدها على مقعد جانبها، وتومئ للحزن أن يقترب، مرحِّبة.

ولكن غاردوت تتوقف عند هذا الحد في علاقتها مع عودة صديقها الحزين- مرحلة الاستقبال، مرحلة الإدراك، مرحلة مفعمة بالأمل والقدرة على الحديث بجاذبية وشجاعة مطلقة: هيا أيها الحزن، لن تقتلني، تعالَ اجلس معي!

لا أعرف إن كانت غاردوت تستطيع محبة ألمها حتى نفاده، أما أنا، وإن كنت أظن في البداية أني أستطيع مجابهته، إلا أنه يهزمني دائماً ويرحل تاركاً إرثاً ثقيلاً يكبلني حتى عودته مرة أخرى.

الحزن منهِك- ألم تعرف غاردوت ذلك؟ ألم يرهق كل عضلات جسدها، ويستنفد أعصابها، ويجفف منابع دموعها؟ ألم يعتصر قلبها، ويجعلها غير قادرة على الحديث؟ ماذا نفعل حينها؟ هل نقول له: ابق جالساً معنا حتى ميعاد رحيلك، فنحن نعرف أن الحياة تجمع الحزن والفرح، وإننا سنقاومك ونستعيد حياتنا كما كانت.. تبدو هذه فكرة جميلة ومثالية. ولكن أي نفوس قوية ونبيلة ومتصالحة تستطيع ذلك؟ حين يكون القلب هشاً كصدر حمامة.. والحياة خالية من الرجاء.. فماذا نفعل حينها؟

وليست محاولة غاردوت هي الوحيدة في مغازلة الحزن، جميعنا يعرف قصيدة نزار قباني "عندما تبكين" التي يقول فيها: "بعض النساء وجوههن جميلةٌ… وتصيرُ أجملَ عندما يبكين". منذ طفولتي أسمع هذه الأبيات وأرى النساء تتأثر بها ولم أفهم أبداً لماذا؟.. هل لأنهن أخيراً وجدن رجلاً يشعر بحزنهن الذي يخفينه، ولا يجرحه؛ بل يدعوه للخروج، ويصفه بالجميل؟ ولكن الشابة ذات النزعة النسوية بداخلي لم تعجب كثيراً بهذا الأمر، حتى قرأت قصيدة غادة السمان "أعز ما تملكه الفتاة"، وتوقفت كثيراً أمام الأبيات التي كتبت فيها:

"فالحزن أعز ما تملكه الفتاة، كالحرية،
ولن أشاطرك إياهما!
أستطيع أن أقاسمك الرغيف والكوخ،
أما الحزن والحرية
فيعاقرهما قلبي وحيداً كما الموت".

تبدو كأنها ردٌّ على نزار قباني. ولكني توقفت كثيراً أمام هذا الحزن الذي يبدو أنه رفيقها الدائم، لا يغادر، وهي تعتبره جزءاً خاصاً من هويتها لا تشاركه أي أحد؛ هل من قوَّتها؟ أم من شدة خوفها أن تنكسر أمامه حين تُظهر له ألمها وحزنها؟ ولماذا يتميز هذا الحزن إلى هذا الحد؟ ولماذا لا تفتح له الباب ليغادر؟ وكيف يكون عندها في مقام الحرية؟

أنا أريد للحزن أن يغادرني. إذا كانت أبيات نزار قباني غزلاً فأنا زاهدة في الكلام الحلو، وإذا كانت أبيات غادة السمان قوة فأنا لست حمل ذلك. أريد أن يتركني حزني، ولا أريده أن يرحل كالشباب المزهو بشعارات القوة والتفاؤل، ولا كصيحات قادة المعارك الذين ينتصرون على ما عداهم. أريده أن يرحل في هدوء ويتركني في صمت، بلا بطولة ولا عظات. ولا أي شيء. في نهاية قصيدته "العدالة"، يكتب الشاعر رياض الصالح الحسين:

"العدالة هي أن آكل رغيفي بهدوء
أن أذهب إلى السينما بهدوء
أن أغني بهدوء
أن أقبّل حبيبتي بهدوء
وأموت بلا ضجة".

لماذا لا تعطينا الحياة شيئاً من هذه العدالة وتتركنا في هدوء؟

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد