زاوية الرؤية

ذات الحدث كل منهما رآه من زاوية ومن موقعه، أما الأول فكان منغمساً بداخل الحدث، جزءاً منه أو أحد مكوّناته وعناصره الفاعلة والمتفاعلة مع بعضها البعض، فلم يرَ إلا ما سمحت به زاوية الرؤية ومساحة الحركة المتاحة لديه.

عربي بوست
تم النشر: 2017/03/11 الساعة 01:53 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/03/11 الساعة 01:53 بتوقيت غرينتش

لكل حادثة حديث، ولكل موقف تفسير منطقي نُلزم أو نلزم أنفسنا به، ويتبقى في النهاية أن الحدث مستقل تماماً عن المتلقي أو المشاهد بتفصيلاته وعلاقاته المتشابكة، كما يستقل أيضاً عن العناصر المنشئة له، فكل منهم أو منها يحتفظ بجزء يسير من الحقيقة، وتظل هذه الأخيرة بدورها مستقرة تحت ركام كبير من التفسيرات والاجتهادات.

لذا لا غرابة في أن تدور كافة التطورات التقنية في حياة الإنسان، حول ما يزيد من قدرته على الرؤية والإدراك، سعياً وراء نظرة أشمل للأحداث والحوادث الجارية حوله، وهروباً من هاجس فخ عدم اليقين.

فما المعضلة والأزمة التي تأخذ بخناقنا وتُعجزنا عن الرؤية السليمة؟ أو تدفعنا للتمسك برؤانا الذاتية ونفي الآخر؟ هل من يقين بصحة وصدق ما نرى؟ ثم كيف نثق في هذا اليقين نفسه إن كان مفروضاً علينا وأتى بفعل تفكير إنساني وارد من خارجنا؟!

الفرضية الرئيسية:
لنفترض جدلاً أن ثمة مشاجرة نشبت، وكنت أنت طرفاً مشاركاً فاعلاً بها، مشاجرة ضخمة نشبت ثم سرت كالنار في الهشيم، فتضخمت بشدة وخرج كل طرف من أطرافها برؤية وحكاية عمّا حدث، وتعارضت الآراء والرؤى حول ما وقع، وكذّب كل طرف الآخر، وشاعت روايات كثيرة لدرجة لم نعد، وبالتحديد أنت، الصادق من الزيف منها… الحدث واحد، والحادثة وقعت فعلاً، وأطرافها شهود حضور، ومع هذا تباينت الرؤى، وتمسّك كل طرف بما رآه وصدّقه بعقله، واعتبره اليقين وما دونه الباطل.

ذات الحدث كل منهما رآه من زاوية ومن موقعه، أما الأول فكان منغمساً بداخل الحدث، جزءاً منه أو أحد مكوّناته وعناصره الفاعلة والمتفاعلة مع بعضها البعض، فلم يرَ إلا ما سمحت به زاوية الرؤية ومساحة الحركة المتاحة لديه.

أمّا الثاني فكان بعيداً، وإن شئنا الدقة كان يتبوأ منصّة عالية يُطلّ منها على الحدث، فرآه بشمولية لم تُتح لغيره، ورأى ما لم يرَه الباقون القابعون بالأسفل أو المشتركون بالحدث.

كل منهما كان يُقسم غير حانث وعن يقين أنه صادق وأن ما رآه هو عين اليقين، لكن ربما كل منهما كان على صواب وخطأ في ذات الوقت، فالمشارك بصُنع الحدث رأى جزءاً يسيراً من الحدث وتداعياته، جزءاً لا يتجاوز قدرته على المشاركة والتفاعل مع أطراف الحدث الأخرى، لكن يُحسب له أنه أحد صُنّاع الحدث والقائمين عليه.

بينما الآخر من عليائه رأى كل شيء، لكنها رؤية المتلقي للحدث غير المتفاعل معه، أو مع أطرافه الصانعة له، يتلقاه كما هو، ولا يملك له تغييرا ً إلا ما يسمح له عقله من إطلاق التفسيرات والتوضيحات والتفلسف الإنساني، كما تكمن وظيفته في توثيق ما رآه دون أن يملك قدرة على صنعه أو تغييره، أو المشاركة فيه فعلاً.

تاللهِ إنها معضلة، فعشرات الآلاف من الحوادث والمواقف التي تحدث قريباً منك أو بعيداً عنّا، وسواء يومياً برتابة أو مفاجئة، إننا نراها فقط كنتائج، بمرور الوقت يختلط علينا الأمر، فنجزم أننا كّنا أحد عناصرها الفاعلة، وندافع عن آرائنا حولها، ونراها المنطق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه.

وهكذا نقع دائماً في فخ مُحكم صنعناه بعقولنا "وهم اليقين"، أن نؤمن باليقين المطلق فيما يحدث، متجاهلين أن كل شيء نسبي في نشأته وتطوره وقياسه، وأنه من المستحيل أن نقيس حدثاً على استقلال دون أن نقرنه بآخر.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد