يبدو أن فرحة أهالي الجانب الشرقي من مدينة الموصل (425 كم شمال العاصمة بغداد) بالخلاص من سيطرة تنظيم داعش لم تدم طويلاً، حيث باتوا يواجهون مشاكل أكثر تعقيداً، في مقدمتها دخول "ميليشيات" إلى مناطقهم، وممارسة أعمال على أسس اعتبرها مختصون "طائفية" بين سكان غالبيتهم من السُنة.
من بين هذه الممارسات، اعتقال مواطنين "أبرياء"؛ بدعوى تعاونهم مع "داعش"، واختطاف أغنياء للحصول على فدية مالية، فضلاً عن عمليات سلب ونهب لمنازل ومحال تجارية؛ ما أفقد الكثيرين الثقة بالمنظومة الأمنية، وفق متضررين وخبراء اعتبر بعضهم أن ما يجري يستهدف إحداث تغيير ديموغرافي في المدينة، البالغ عدد سكانها نحو 1.5 مليون نسمة.
وقال رئيس "منظمة العدالة الإنسانية" (أهلية)، عبد القادر خليل، إنه "جرى تسجيل أكثر من حملة اعتقال لمواطنين أبرياء لا علاقة لهم بـ(داعش) نفذتها قوات ترتدي الزي العسكري الرسمي، وتستقل عجلات (سيارات) حكومية، وتنتمي إلى الميليشيات بحسب الشعارات التي ترفعها".
ومنذ 17 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، يواجه "داعش" عملية عسكرية عراقية، بدعم من التحالف الدولي، أفقدت التنظيم السيطرة على الجانب الشرقي من المدينة، فيما يحاول حالياً الحفاظ على جانبها الغربي.
فدية مالية
عبد القادر، تابع أن "15 مواطناً من مناطق الزهور، والزراعي، والنور، والشرطة، شرق الموصل وشمالها، تم اعتقالهم في ساعة متأخرة من ليلة أول من أمس من قِبل ما تسمى كتائب بابليون (وهي قوة تندرج ضمن الحشد الشعبي الشيعي)؛ بذريعة تعاونهم مع (داعش)".
وأضاف أن "الكثير من المنازل السكنية والمحال التجارية والمنشآت الحيوية في الجانب الشرقي المحرر من الموصل تعرضت للنهب والسلب.. الميليشيات بدأت تجوب الشوارع وتمارس أعمالها بحرية تامة في وضح النهار دون أي رادع لها".
وأوضح أنه "جرى تسجيل 3 حالات اختطاف شرق الموصل لمدنيين أغنياء من قِبل عناصر الميليشيات، ثم إطلاق سراحهم بعد الحصول على فدية مالية كبيرة تُقدر بآلاف الدولارات".
وشدد رئيس المنظمة الحقوقية العراقية على أن "المواطن أصبح لا يفرق بين عناصر الميليشيات والقوات الأمنية؛ لكون الجميع يرتدي الزي العسكري، ويحمل السلاح الناري الحديث، ويستقل العجلات الحكومية".
فقدان الثقة بالمنظومة الأمنية
بدوره، قال محمود علي الحداد، رئيس رابطة "حرية الموصل وكرامتها" (أهلية)، إن "المدنيين في المدينة بدأوا يخشون من القوات الأمنية، كما كان الوضع قبل أحداث (يونيو/حزيران 2014″، أي قبل انسحاب القوات الأمنية العراقية وسيطرة داعش على الموصل، مركز محافظة نينوى (شمال).
وتعزو القوى السُنية في العراق ظهور "داعش"، واكتساحه العديد من المحافظات العراقية، عام 2014، إلى الخلافات السياسية، وتفرّد أطراف شيعية بالحكم في بغداد، وغياب الرؤية المشتركة لإدارة المؤسسات الحكومية، خصوصاً الأمنية والسياسية. وهو ما تنفيه حكومة حيدر العبادي.
الحداد، تابع أن "الاعتقالات العشوائية وعمليات الاختطاف والسلب والنهب والابتزاز ومطاردة الكفاءات، بعد أسابيع من اكتمال عمليات تحرير الجانب الشرقي من داعش (يوم 24 يناير/كانون الثاني الماضي)، تثير الكثير من علامات الاستفهام والتعجب لدى المواطن، وتدفعه إلى فقدان الثقة بالمنظومة الأمنية".
وشدد على أن "تلك الممارسات غير الأخلاقية في المناطق المحررة لا تخدم أي طرف سوى التنظيم الإرهابي (داعش)، الذي راهن ويراهن على ورقة الأعمال الطائفية، التي يتعرض لها المدنيون عند خروجهم عن سيطرته".
وحذر الحداد من "استغلال التنظيم هذه الأفعال والممارسات في تنفيذ أعمال انتقامية ضد أي قوة ترتدي الزي العسكري، بحجة الدفاع عن المواطنين".
كما حذر من أنه "في حال استمرار الأمور بهذا المسار، فإن الموصل عائدة إلى المربع الأول قبل أحداث 10 يونيو 2014، عندما كان المواطن لا يثق بالأجهزة الأمنية، ولا يرغب في التعاون معها؛ بسبب الفساد الذي كان مستشرياً في جميع المرافق الحكومية".
نشر قوات دولية
ووفق المحلل السياسي العراقي محمد الصواف، فإن تدهور الوضع الأمني في الجانب المحرر من الموصل يعود إلى "غياب التنسيق بين الأطراف المشاركة في العملية السياسية".
الصواف، مضى قائلاً إنه "بعد أن أكملت القوات العراقية عملياتها ضد داعش في الجانب الشرقي من المدينة، بدأت بوادر الأزمة الأمنية بالظهور؛ جراء غياب الرؤى من الجهات المختصة للتعامل مع مثل هذه المواقف، فضلاً عن عودة الصراعات السياسية".
وحذر من أن "الأزمة الأمنية ستتسع في القريب العاجل في حال استمر الوضع على ما هو عليه فترة أطول".
واعتبر الصواف "الحل الأمثل هو نشر قوات دولية؛ لحماية المواطن والحفاظ على ممتلكاته الخاصة والعامة، لحين الانتهاء من تحرير مدينة الموصل بالكامل، ومن ثم الاستعانة بقوات نظامية لتحل محل القوات الدولية".
إبعاد قوات "حرس نينوى"
فيما قال الدكتور في جامعة الموصل مؤيد طلال الكرطاني، الخبير في الشؤون العسكرية والاستراتيجية، إن "تدهور الوضع الأمني في المناطق المحررة من المدينة تتحمله الحكومة المركزية (حكومة بغداد)؛ لإصرارها على إدارة الملف الأمني بالطريقة القديمة، دون إيلاء أي اعتبار للمتغيرات التي طرأت على مجمل الأوضاع في المدينة، والمنطقة عامة، خلال أكثر من عامين".
وأردف الكرطاني، أن "حكومة بغداد ارتكبت خطأ فادحاً عندما قررت إبعاد قوات حرس نينوى، المشكّلة من أبناء المحافظة، والمدربة على أيدي مستشارين عسكريين أتراك مشهود لهم بالكفاءة والخبرة، إلى خارج الحدود الإدارية للموصل، وتكليف الحشود الشيعية مهمة السيطرة على الأرض، في ظل انشغال القوات المسلحة الرئيسة (ومنذ 19 فبراير/شباط الماضي) بمعركة تحرير المناطق الغربية من الموصل، التي لا تزال تحت سيطرة داعش، في المدينة"، التي تعتبر آخر معقل للتنظيم بالعراق.
وشدد على أن "الوضع الأمني مقلق للغاية، وفي حال عجزت الجهات العسكرية والسياسية عن إيجاد الحلول الناجعة، فسيضيع النصر بين أرجل منفذي العمليات الطائفية والمروجين للأزمات والمستفيدين منها".
تحركات برلمانية ضد الطائفية
من جانبها، أعربت عضو مجلس النواب العراقي عن نينوى، جميلة سلطان العبيدي، عن "استعداد ممثلي المحافظة في البرلمان لإدراج ملف الانتهاكات، التي يتعرض لها أبناء الموصل من قِبل عناصر خارجة عن القانون، تسعى إلى سلب فرحة النصر من المواطن البسيط، في الجلسات البرلمانية القادمة؛ للوصول إلى قرار يحد منها".
العبيدي، زادت بأنها "تمتلك شهادات صوتية من مدنيين عزل في المناطق التي جرى تحريرها تفيد بتعرضهم لانتهاكات على أيدي ميليشيات بدوافع انتقامية طائفية.. وسأقدمها إلى رئاسة مجلس النواب؛ لاتخاذ الإجراءات المناسبة بحق هذه العناصر المسيئة".
ورأت أن "الميليشيات تحاول من وراء هذه الأفعال إحداث تغيير ديموغرافي في الموصل، والسيطرة عليها، والتحكم في مقدراتها المختلفة، وسنرفض حدوث ذلك بكل الوسائل القانونية.. إخراج المواطن من قبضة داعش، وإدخاله تحت حكم الميليشيات أمر غير مقبول بتاتاً".
تهديد الكفاءات
وبحسب الناشط المدني أيهم معتز، فإن "الحملة الشعواء التي تتعرض لها الموصل مستمرة، وستبقى حتى بعد الانتهاء من حقبة (داعش)؛ وذلك بهدف إفراغ المدينة من طاقاتها البناءة واستغلال خيراتها المتنوعة".
وتابع معتز، أن "الكثير من الممارسات غير الأخلاقية باتت تستهدف الشريحة الراقية في المجتمع الموصلي، مثل الطبيب، والمهندس، والتاجر، والمحامي، والإعلامي؛ لإجبارهم على مغادرة المدينة أو البقاء فيها وتحمّل نتائج بقائهم".
واعتبر أن "الميليشيات تستكمل ما بدأ به (داعش) تجاه كفاءات الموصل وسكانها بصورة عامة، وهذا الأمر لا يمكن أن يكون مصادفة"، على حد تقديره.
وحذر من أن "الانتهاكات في الجانب المحرر ستفاقم المشاكل، ومن ثم تقوض جهود الحرب ضد التنظيم الذي لا يزال يسيطر على أجزاء واسعة، ويحاول بين الحين والآخر أن يؤكد قوته عبر شن هجمات على القوات الأمنية والحشود المساندة لها".
ورداً على سؤال بشأن مستوى الخدمات في المناطق المحررة، أجاب الناشط المدني في الموصل بأن "المستوى متدنٍّ إلى أبعد الحدود، فأكوام النفايات تنتشر في كل مكان، والسكان يعانون نقصاً حاداً في الغذاء والماء ووسائل التدفئة، والمراكز الصحية لا تمتلك أبسط أنواع العلاج، ومخلفات الحرب في كل مكان".
وختم معتز بأن "بعض شباب الموصل يحاولون تغيير هذا الواقع المرير عبر تنظيم حملات إغاثة للمحتاجين وتنظيف الشوارع، غير أن الواقع أقوى بكثير من إرادتهم، خاصة في ظل غياب الأمن".