وأصبحنا .. بلا وطن

كادوا لك يا موطني، وأوهنوا عزمنا، أتراني أعود إليك ولو بعد حين؟ وأمرغ يدي بترابك؟ عساني أتنفس عبقاً يرد روحي، فلتغفر لنا يا وطناً ما عاد يؤوينا.

عربي بوست
تم النشر: 2017/03/09 الساعة 02:14 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/03/09 الساعة 02:14 بتوقيت غرينتش

لم تكن أزمة سياسية عابرة، فقد بدأت الأمور تزداد سوءاً، وفي كل مرة كنت أحاول فيها استيعاب ما يحدث، أجدني في مواجهة مع تناقضات الدنيا مجتمعة، فأكتفي بما تجود به بصيرة أبي؛ لأصم عن ضوضاء تتعالى بداخلي كلما تذكرت أنني عربية مسلوب صوتها.

كنت أريد أن أكون مهندسة تبني وطناً، وهأنذا شاهدة على دماره، حتى إنني رأيت كل آمالي تهوي من إرادة كانت لتلامس عنان السماء، سماء ليست كتلك التي عهدتها، فقد لوثتها خبث النوايا.

كنا نفترش مدخل الباب تأهباً لكل ما قد يحدث، وإذا ما غالبنا النوم ترانا نستفيق على وقع انفجار تهتز له أنفسنا وجلاً، كان منظراً يدمي القلب من فرط الوجع، يداي مغلولتان إلى قلبي الذي ينزف تنبأ بما سنؤول إليه، وعيناي متسمرتان على منزلنا الذي غدا حطاماً بلمح البصر، أما أبي فقد خانته قدماه لهول ما رآه، وأمي تحاول أن تتماسك، وهي تشد على أيدينا، وتذكرنا بأن الله -عز وجل- اصطفانا لنكون أهلاً لهذا البلاء، حاول أبي القيام، لكن قدمه لم تستجيبا لمحاولاته فقد شُلتا عن الحركة.

لا أزال أذكر كيف ارتفع صوتي بالبكاء حينها، لا أدري إن كنت قد بكيت حسرة على أبي، أو احتحاجاً على ظلم الطغاة، وككل السوريين الذين أضحوا بلا عنوان باشرنا بإجراءات الهجرة.

كادوا لك يا موطني، وأوهنوا عزمنا، أتراني أعود إليك ولو بعد حين؟ وأمرغ يدي بترابك؟ عساني أتنفس عبقاً يرد روحي، فلتغفر لنا يا وطناً ما عاد يؤوينا.

وجدتني ألوذ عنك لتطوقني ذكراك من حيث لا أدري، وأشتري الحياة بقارب من موت، وأي حياة لمن تآمرت مساعي العِدى على خذلانه؟

كان كل واحد منا يتأبط خيباته منكسراً ذليلاً، وبقلبه ألف غصة، بدأ القارب ينأى بنا عن مرساه، وأنا أسمع كل الكلمات التي كانت تتردد في نفس أبي، وترتسم لمّاعة في دموع تمالكها، لعله كان يكابر حتى يبقي على صورة البطل التي أراه دائماً عليها، فقد كان ولا يزال بألف جبل شامخ.

أمواج تميلنا ذات اليمين وذات الشمال، ولا أحد يفلت خيباته، صمت رهيب تمكن منا جميعاً، وماذا عسانا نقول ولغات الدنيا لا تسعفنا لنلفظ غصة تجثم فوق قلوب أرداها العجز يائسة؟

يحفني البحر من كل النواحي أنّى أشيح بنظري يباغتني، لكأنه ينوي على غدر، أيجعل مني "إيلان" آخر؟ هل سيتداول الناس صورتي بعد أن يلقى بي على اليابسة؟ أسيستفيق ضميرهم لهنيهات ثم يعود ليغط في سباته السرمدي؟

كل هذه الأسئلة تراودني وتؤجج لهيب الألم بداخلي، فيستحيل نفسي دخاناً أنفثه في يدي عساني أصد برداً ترتعد له فرائصي، ها أنا ألمح بنايات تؤذن بأننا وصلنا، تأملتهم ملياً، كانت ملامحهم تكاد تنطق، وهنا ما أمدني بقوة تشربتها من عيون ذابلة بهت بريقها، نفضت عني نفسي القديمة وباشرنا المسير، نظرات ازدراء تتقاذفنا أنّى حللنا، وكأن هول ما ألمّ بنا هين حتى نزداد وجعاً، ليكن، فسيأتي يوم نعود فيه لوطننا القديم، وطن سالم آمن، تكسوه الورود لا الجثث، وسيظل مناي يحرضني على أن أحيا أبية رغم أنف العِدى، ممسكة بخيط أمل رفيع وإن كان من دخان، طمعاً بلقاء آخر يجمعني بوطني.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد