ذهنية الاستثمار للعنصر البشري

أقف حائراً ومتسائلاً: لماذا يحجم الجميع ويبخل من أن ينفق أمواله في استثمار العنصر البشري كأعظم ثروة بمجرد أن تصل بهذه العناصر إلى مستويات عالية تضمن بها تحقيق الأهداف والرؤى كدولة أو حكومة أو حزب أو مؤسسة

عربي بوست
تم النشر: 2017/03/09 الساعة 02:11 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/03/09 الساعة 02:11 بتوقيت غرينتش

منذ أن حطت راحلته الشريفة على ثرى مدينته، كانت أيدي محمد -صلى الله عليه وسلم- تنفض غبار طريق هجرته، وكأنه طيّ لمرحلة هدر الطاقات واستنزافها لمصلحة المجهول لا لهدف ولا لغاية، فقط أسياد تنهش في لحوم أفراد المجتمع وتستعبدهم حتى شيخوختهم، بينما ينحصر الرقي في طبقة سادة القوم التي لا تفكر بمستقبل رعية، ولا يؤرقها سوى تدبير خراج العام ضريبة للممالك والإمبراطوريات المجاورة.

بدأ صانع مجتمع المدينة يرسم ملامح مجتمع يمتلك الرؤية في استيعاب أفراده وتطويرهم، وتقسيم المهام والوظائف، وحماية الحقوق، والتحفيز للرقي والتطور، فالداخل إلى هذا المجتمع يقرأ لائحة مكتوباً عليها: "اخلع نعليك وهرول بعيداً عن النوازع الفردية فإنك في وادٍ مقدس من المسؤولية الجماعية يروي أهدافاً ومصالح سامية"، فبدأ معهم من أول حجر زاوية يتعاونون في حمله لبناء المسجد، إلى زراعة بساتين المدينة، وتشكيل مجالس الشورى التي تحفظ لهم حقوق إبداء الآراء، وإعداد الخطط وتغيير المواقع، وحفر الخنادق، ودراسة لغات الأمم، واستثمار الخبرات، وتشجيع التجارة، وازدهار السوق، حتى وصلوا إلى مراحل القدرة والسيطرة، فقالوا: اليوم نغزوهم ولا يغزوننا، فهبت مشارق الأرض ومغاربها أفواجاً تنتسب إلى هذا المجتمع الذي لم يكن له ثروة سوى ذلك العنصر البشري، الذي يعيش في مجتمع يمتلك رؤية واضحة في استيعابه، كعنصر يفضّله عمر بن الخطاب أن يكون كمليء البيت الذي يعيش فيه نماذج مشابهة لعامر بن الجراح وغيره، بينما تمنى البعض أن تمتلئ البيوت بالذهب والفضة وتنفق على نهضة الأمة.

فضَّل عمر هذه الثروة على كنوز الأرض؛ لأن الإنسان من سيخرج بيديه هذه الكنوز حين نميَّز أنه أفضل من معادن الأرض باهظة الثمن، لكنه يشبهها في الحاجة إلى الصقل والتدريب والحماية والتكرير، فلا حاجة للأمم بعناصر لا تمتلك محصلة قوى تصنع الامتياز، ولا يجتمع خير أمة في عقول لا ترجح الكفة التي لا ترجح أبداً إلا بتكتلهم كوحدة مجتمعة، تمتلك الحصافة والعصمة والمستويات العالية من التأهيل والتطوير، فقد قال نبينا عليه الصلاة والسلام: "إن الله وعدني في أمتي وأجارهم من ثلاث، وذكر منها لا يجمعهم ضلال، ولا يستأصلهم عدو".

قد تمتلك الدول والمؤسسات وبقية الهيئات العديد من الموارد الطبيعية والمالية التي تبقى دون استثمار، لغياب العنصر البشري القادر على ترويضها وصقلها، وتصبح هذه الهيئات معرضة للاهتزاز برغم مواردها وإمكانياتها كصورة سيئة من صور استعراض العضلات، سببه جفاف المجتمعات من التأهيل والتثقيف والتوعية للثروة البشرية ، ففي الوقت ذاته الذي تزداد فيه التحذيرات من هدر الموارد الطبيعية والخوف من جفاف مصادرها، تعاني الأمة من هدر لمواردها البشرية، وعدم تقديرها؛ لتصبح مرتهنة لعدم الاهتمام وجمود التخطيط والتقليد الفاشل، فجفت ينابيع مشاعرها وفكرها، وأضحت غير قادرة على النهوض، عاجزة عن نشر أبسط ثقافات التعايش والتواد التي تعتبر أولوية الاستثمار في عودتها لعناصرنا البشرية كبرامج مكثفة ركيزةً أساسية تمهد لمشاريع الاستثمار الكبرى، التي تعنى بصناعة بؤر التفكير وصحوة الضمير، وبُعد النظر والتطوير للعقلية البشرية، التي يتوقع منها أن تبذل أغلى ما لديها لخدمة أهداف المجتمعات والدول في هذا العالم الذي لا تخضع قوانينه للضعاف.

أقف حائراً ومتسائلاً: لماذا يحجم الجميع ويبخل من أن ينفق أمواله في استثمار العنصر البشري كأعظم ثروة بمجرد أن تصل بهذه العناصر إلى مستويات عالية تضمن بها تحقيق الأهداف والرؤى كدولة أو حكومة أو حزب أو مؤسسة، أهداف تضمن لك قياس أثرٍ لنتائج، ومخرجات ملموسة لعديد من السنوات؟ ولماذا تتعامل أغلب حكوماتنا مع شعوبها والأحزاب والمؤسسات مع كوادرها بطريقة الاعتماد على سياسة غرس القيم والشعارات الرنانة، والتحفيز على الاعتماد على النفس في قضايا التطوير والتأهيل، مع العلم أن هذه المسالك نسبة نجاحها غير مضمونة أو مرتفعة، دون أن يكون هناك عديد من الخطط والمناهج ومشاريع التطوير للكفاءات البشرية التي يجب أن تتبناها استراتيجيات الحكومات والمكونات، وتنفق عليها أعلى الحصص من الميزانيات السنوية، بعد ذلك يأتي دور التحفيز وغرس القيم والمسؤولية الفردية الذاتية التي تعتبر مكملاً لجزء أكبر يقع على كاهل الهيئات والمؤسسات.

تنفق الحكومات والدول والأحزاب والمؤسسات في مجتمعاتنا أموالاً ضخمة في مشاريع توصف دائماً بأنها تسهم في تخفيف المعاناة أو الاحتياج (مسكنات)، بينما يتحاشى بعض تلك الهيئات أن تخصص جزءاً من خطتها ورؤيتها لسنوات قادمة، تنفق فيها تلك الأموال الضخمة ولو دفعة واحدة سنوياً، لسد الاحتياج الكلي، بعيداً عن المسكنات وبمراحل مرسومة ومتسلسلة للصعود بمستويات المعرفة والتطوير للعناصر البشرية، بعيداً عن شماعة الطوارئ، التي صمت الآذان، وغيّرت الخطط المرسومة بين الفترة والأخرى، وكأننا سنخرج من قمقم الطوارئ غداً!!

وتناسينا أن جرس الإنذار وحالة الطوارئ يرن منذ سنوات طويلة في تاريخ الأمة، ولن تخرج منها إلا برؤية استراتيجية رأسمالها العنصر البشري.

أم أن العنصر البشري في وطننا العربي مكتوب عليه أن يفني حياته وهو يفكر في لقمة عيشه وسد رمقه؟ يمتصه ملاك الأموال وصناع القرار في متاهة حياة مثقلة بالأزمات، تشرد بخواطره بعيداً عن التفكير في مستقبل أمته وسد رمق تطلعاتها، فالهيئات السوية هي تلك التي تصنع من ثرواتها البشرية عناصر متزنة التكوين تعي أهداف أمتها، وتتحرك بها في واقع حياتها، تزاول وظيفتها بقدسية وتتحرق شوقاً لأدوار قيادية منتظرة تحرس بها الكيان، وتستغل بها كل الوسائل والجهود.

بقاء عناصر بشرية ضعيفة وهزيلة في منظومة الدول والحكومات والهيئات والمؤسسات لن يكون إلا تعزيزاً لبقاء عوامل الضعف في تلك المنظومات، بينما تراكم التطوير والاستثمار لهذه العناصر مع وجود الرؤية ضمان لمخرجات مختلفة تماماً، فالإنسان وحده من يمتلك خاصية التغيير والتأثير في الأرض وجماداتها وسياستها أينما وجد التخطيط لذلك، ولنا في اليابان عبرة.

فمهما توافرت الأرقام المهولة من العناصر البشرية ستصبح غثاءً بمجرد غياب رؤية واضحة للوصول بها إلى مراحل الاستيعاب والعطاء والولاء، وعندها تنهار مؤشرات النتائج، وتنشط عناصر المشاغبة، وتزداد أسهم الاستقطاب والتشظي، ويغيب الولاء حتى في حالة ظهور العناصر البشرية المؤهلة والقادرة على تقديم نتائج متقدمة لن تستطيع أن تصل إلى رغبتها طالما أن الرؤية غائبة عند صناع القرار، فنجد جهوداً جبارة تبذل بلا رؤية لتحريك الجمود، فتعقد المؤتمرات، وتتكرر الاجتماعات، وتتشكل التحالفات والشراكات، وتوقع الاتفاقيات، ولكنها في الأصل ليست إلا مسكنات آنية للاحتياجات واستهلاكاً لجهود بشرية واستنزافاً للأموال والأوقات، ناهيك عن قدرات بشرية متوقفة عند مستويات معينة من المعرفة والوعي دون حقوق التطوير.

حلول المعضلة تتلخص في إعداد العنصر البشري كثروة من كل جوانبه، حتى ينمو بشكل فعال، يستشعر قيمته، ويدرك حجم التأهيل والإعداد لإلقاء تبعات ومهام جسيمة تنجز بكفاءة، وتبعث فيه شعور الرضى، مع عدم الاكتفاء بإعداد العناصر البشرية، وإنما يوازيه صياغةُ للرؤى والسياسات وفق ذهنية تستثمر استيعاب العناصر البشرية بعد تدريبها وتعليمها بسخاء يوازي ميزانيات تصرف في الترسانات الحربية التي ننهش بها لحوم بعضنا البعض، بدلاً من صناعة مشاريع تؤسس لغدٍ أفضل، كلنا يحلم أن تكون سماته إيجابية تخلو فيه الأوقات من فراغٍ، يعصف بإنتاج المجتمعات، ويبدد أحلامها.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد