"العثمانيون في ثلاث قارات" لكاتِبِه إلبر أورتايله (ILBER ORTAYLI)، يتحدّث هذا الكتاب الصادر بنسخته العربية في إسطنبول، صيف 2015 م يوليو/تموز عن تاريخ الخلافة العثمانيّة مُنذ نشأتها وحتّى إسقاطها مُلقياً بعضَ بُقَع الضوء على أهم السلاطين والشخصيات البارزة والتطورات والتغيُّرات الحاصلة في أراضي هذه الإمبراطوريّة المسلمة.
تَوزّعت اهتمامات الكاتب في 189 صفحة على الموضوعات التالية:
التاريخ العثماني في التربية
يفتتح (أورتايله) هذا الموضوع بالقول إنّ هناك مشكلةً تعاني منها منطقة البلقان ودول البحر الأسود والقوقاز، بالإضافة إلى دول الشرق الأوسط، تتمثّل هذه المشكلة في عدم قدرة هذه الدول على إيصال التاريخ كعلمٍ إلى الجماهير فلا ترى من يقرأ كتاباً تاريخياً حاشا الكتب المدرسيّة، ويرى أنّ الحلّ يكمن في ضخّ المعلومات التاريخية في الكتب المدرسية، التي تبعثُ هذا الماضي المجيد في نفوس الناشئة.
فيما تتساءل المؤرخة البلقانية الشابّة (أولغا زيويفيك) غاضبةً احتجاجاً على استخدام عبارة "نير الاحتلال العثماني" من قِبل بعض البلقانيين القوميين بقولها: "وهل نحن ثيران لنستخدم هذه العبارة عندما نتحدث عن فترة مهمة من تاريخنا؟!"، ويرى (أورتايله) أنّ ما يجب أن نفعله هو: "أنْ نشرح لشبابنا أنَّ البلقان والبحر المتوسط كيانٌ ثقافي وهُويّة.. وبعد أنْ نغرسَ حُبَّ الدول والحضارات التي في هذه الجغرافية.. يمكننا أن نشرحَ أهميّةَ الدور الذي لعبته الإمبراطورية العثمانية في التاريخ، ونقله إلى الأجيال القادمة".
ويتابعُ مدافعاً عن الفتح العثماني ناعياً على الاستكبار الاستعماري طغيانه بقوله: "وللأسف نجح المستعمر الفرنسي إلى حدٍّ ما في الجزائر في إحلال الفرنسية محل العربية المتفوقة في كثير من الخصائص البنيوية على اللغة الفرنسية، ويعود تاريخها إلى مرحلة أقدم منها وحتى اليوم هناك عدد كبيرٌ من المثقّفين الجزائريين الذين لا يتكلمون العربية جيداً، ولا يكتبونها بشكل خاص.
ولا يمكننا الحديث عن أمر مشابه تحت الحكم العثماني، فالحكم العثماني لم يُعرِّض تاريخ شعوب البلقان والشرق الأوسط للانقطاع".
يتابع الكاتب مستدلاً على صحة قوله بكلام المؤرخ الروماني الكبير (نيكولا جورغا) المولود في القرن التاسع عشر: "لولا الهيمنة العثمانية لما بقيت الرومانيّة، ولَضَاعَت وسط البحر السلافيّ واختفت.
لولا الهيمنة العثمانية، لا شكّ أنّها سَتُصَرَّب.. لولا الهيمنة العثمانية، لكانت هناك جغرافية مختلفة تماماً في البلقان..".
السلطان محمد الفاتح وحملة أوترانتو
أوترانتو مدينة في جنوب إيطاليا دخلها محمد الفاتح وفتحها في 11 أغسطس/آب 1480م بلا مواجهة كبيرة، إذ كان ميدان فتوح محمد الفاتح هو أوروبا لكنّ هذا الفتح لم يستمر طويلاً إذ وَدَّع العثمانيون إيطاليا في 1481م في 10 سبتمبر/أيلول، ويعتقد الكاتب أنّه كان هنالك تسرّعٌ بالسيطرة على إيطاليا ولم تتخذ الإعدادات الكافية من أجل هذا الفتح.
عهد السلطان سليمان القانوني
"ومما لا شكَّ فيه أنَّ الحاكم المؤسس الحقيقي للإمبراطورية العثمانية، الذي أشعرَ بوجود هذه الإمبراطورية مقابل الجغرافيا الأوروبية وثقلها هو محمد الثاني".
ثُمَّ ضُمَّت بغداد إلى هذه المنظومة في عهد السلطان سليمان القانوني وبظهور آل هابسبورغ حكاماً لأوروبا وسيطرتهم على إسبانيا من جهة وألمانيا والنمسا من جهة أخرى، لم يبقَ لهم منافس حقيقي سوى العثمانيين فقد كانوا يضغطون على الحدود من جهة، ويسيطرون على المجر التي تُعتبر حقّهم القانوني من جهة أخرى، والأهم من هذا كانوا يقفون إلى جانب الإمارات البروتستانتية المتمردة على الحكم الكاثوليكي في ألمانيا فغدت الإمبراطورية العثمانية حاميةً للبروتستانت، وفي هذه الحال لم يكن أمام فرنسا إلا التحالف مع الأتراك وهي تحت الضغط الكاثوليكي الألماني والإسباني على الرغم من كونها كاثوليكية، وأقيمت في ذات الوقت علاقات دبلوماسية مع الدولة الصاعدة إنكلترا، بينما صراع العثمانيين مع إسبانيا كان بسبب الجزائر المرتبطة بها، كان يُدير المنطقة التي تسمى المغرب العربي أو مغرب الشمال الإفريقي بحارةٌ وإنكشاريون ومقاتلو بحرية نشأوا في الأناضول وعلى رأسهم خير الدين بربروس، وبفضل هذا بقيتْ منقطة شمال إفريقيا بيدنا، يقول الكاتب، كانت تلك القوة البحرية تقابل منطقة سيد سادة المقاطعات، ومنطقة ذات امتياز، واستطاعت أن تقارع إسبانيا وتقهرها، هكذا كان توازن القوى.
العثمانيون وعالم البحر المتوسط
"وُلِدت الإمبراطورية العثمانية باعتبارها إقطاعية صغيرة في منطقة بحر مرمرة، وكبرت ولكن ما إن مرَّ قرن ونيّف على سنواتها الأولى تلك حتى فَرَضَت هيمنتها في البلقان وإيجة، وشمِلَت سُلطتها في البلقان المنطقة التي تُسمّى اليوم بلغاريا واليونان بالكامل.
بعد فترة قصيرة، امتدت نحو منطقة بحر الأدرياتيك، ونهر طونا (الدانوب)، وشواطئ البحر الأسود، ومنطقة الرافدين، في قرنها الثاني، غدت إمبراطورية لفَّت سواحل البحر المتوسط عدا الغربيّة منها، وضمَّت شمال إفريقيا، أي أنّها بتعبير آخر، كانت روما الثالثة بمؤسساتها وحياتها ومفهوم سلطتها العالميّة وجغرافيّتها.
كانت الإمبراطورية العثمانية آخر إمبراطوريّات المنطقة الرائعة المؤسّسة في عالم البحر المتوسّط، وهي دولة احتضنت ثقافاته كلّها مع إرثه، ونقلتها إلى العالم المعاصر، وكانت هذه وظيفتها التاريخية: إمبراطوريّة متوسطيّة".
"إنّ حملة نابليون على مصر 1798م قَهْقَهْرَت السيطرة العثمانية على حوض المتوسط تدريجياً، وبدأت آثار هذا الأمر التخريبيّة تفرض نفسها".
عصر المعماري سنان في الإمبراطوريّة العثمانيّة
"لم تكن -الإمبراطورية العثمانيّة- غنيّة كسائر إمبراطوريّات العصر الجديد كما يبدو، الأصح أنّ مصادر الغنى في الإمبراطوريّة، والطّبقات المستفيدة من هذا الغِنى، وطريقة استخدام هذا الغِنى، وانعكاسه على الحياة اليوميّة مختلفة جداً عمّا كانت عليه الإمبراطوريّات المعاصرة.
ازداد تجار أوروبا غنى في ذلك العالم، وحصلوا على إدارة المدن، وأقرضوا خزينة الإمبراطور الخاوية نتيجة الإفلاس، وأثرّوا على إدارة الدولة.
أسلوب الحياة، ونظام المدينة والذوق الفنّي، والعمارة، كلّها كانت تُناسب البرجوازيّة الصاعدة".
نظام الأقليّات والمِلل عند العثمانيين
"ونتيجة لعدم إجراء إحصاء سكاني صحيح، واعتبار ثلث سكان الإمبراطوريّة من غير المسلمين، تُقبَل في كُليَّاتنا الهامّة كالطبّ والبيطرة النِّسبَةُ نفسها من غير المسلمين، ويُقبل في المدرسة الإداريّة أيضاً طلاب منهم ليتخرّجوا كوادرَ إداريّةٍ، يحدُث تنافس بين الجماعات المسيحيّة، مثلاً يعترض الأرمن قائلين: "يُقبَل عددٌ أكبرُ من الروم، ويجِبُ أن نكونَ نحن الأكثريّةَ".. واللافت للنّظَر هو وجودُ ضباطٍ ورقباء غير مسلمين في قطعة المراسم عند أداء التّحيّةِ وتحيّة الجمعة. وقد وصل الأمرُ إلى درجة أنَّ الكاثوليك الأرمن ومن كانوا يُسمَّون لاتينيين، وهؤلاء أتباع كنيسة الروم الكاثوليك قالوا: "ليكن هناك رقباءُ وملازمون منا"، وقد قُبِلَ هذا الطَّلبُ.
العصر الزَّنبقيّ (نسبة إلى زهرة التوليب)
"انعكس العصر الزنبقيّ على حياة النّاس وسكنهم، لا يمكن رؤيةُ أبنيةٍ جميلةٍ في أيّ عصرٍ كأبنية القرن الثامن عشر، بدأت المدن تستمرُّ بحياتها المستقلّة.
دخل الإداريّون المحليّون ببعض النشاطات الخاصّة، وأنشأوا أبنيةً جديدةً في مدن البلقان ودمشقَ وحلبَ وطرابلسَ الغرب، وطرابلسَ الشّام".
وقد تناولَ هذا الكتاب العديدَ من الموضوعات الشائقة، منها الإدارة في الإمبراطوريّة العثمانيّة، وحصار فيينا ونتائجه، ومدحت باشا والإدارة، والنظّام القانوني لدى العثمانيين، وآخر العثمانيين، وأُسكُدار حيّ في العاصمة العثمانيّة، وبيه أوغلو وفنار في العصور الماضية (وقد أبدع المؤلف في وصف هذين الحيين التاريخيين)، وأدعوكم إلى عدم تفويت فرصة قراءة هذا الكتاب الرائع.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.