ليس كل التاريخ مكتوباً

في الحقيقة إن التاريخ الشفهي يسد كثيراً من الثغرات التاريخية التي سكتت عنها المصادر، كما أنه يعطينا تاريخاً للجماعات والقرى التي لم تتناولها المصادر التاريخية أساساً، أو أن ما ورد بشأنها كان طفيفاً.

عربي بوست
تم النشر: 2017/03/09 الساعة 01:28 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/03/09 الساعة 01:28 بتوقيت غرينتش

عرَف العربُ منذ القِدَم التاريخ الشفهي الذي يعتمدُ رواياتِ شهودِ العيان، وهي الطريقة البدائية البكر لمحاولة معرفة الزمن والأحداث، فلم تكن لديهم عادة كتابة التاريخ لغياب الأسباب والدّواعي الملحّة لذلك، فالأشعارُ التي تتحدث عن بطولات قبيلة ضد أخرى، أو تتحدث عن معركة أو بعض الخصال، كانت تفي بالغرض، هذا النمط الثقافي العربي تلخّصه العبارة التي قالها عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "كان الشعر علمَ قوم لم يكن لهم علم أصحّ منه"، فمنها يتضّح أن الشعر كان ديواناً للعرب، وفيه تسجيل لمآثرهم ومثالبهم وأمثالهم وأيامهم وأخبارهم.

من الواضح أن أهمية التراث الشفاهي، واستعماله كمصدر تاريخي، تزداد في الآونة الأخيرة، ويلقى رواجاً في الأوساط العلمية، ولعل ما أخر دخول التراث الشفاهي إلى دائرة التاريخ أن المؤرخين ينظرون إلى ذلك التراث نظرة غير جدية، ويعّدونه ضرباً من الفنون الشعبية التي لا يمكن الركون إليها. إلا أن التاريخ الشفاهي مصدر من المصادر المهمة التي يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار، فهي توضح وضع المجتمع، وكيف يرى أصحاب ذلك المجتمع أنفسهم، والصورة التي يرسمونها لأنفسهم أو يضعون أنفسهم داخل إطارها، فعندما نفكر في التاريخ، نفكر غالباً بالكتب التي تملأها الأسماء والتواريخ والأحداث، إلا أنه هناك الكثير من الناس، من المحتمل أن يعرفوا الكثير من الأحداث التاريخية، لكنهم لم يعمدوا إلى تدوينها، فهم يستطيعون الإخبار عن تجاربهم الحياتية، مثل أين كانت نشأتهم؟ وكيف كانوا يحصلون على قوتهم (الطعام)؟ هذه المعلومات مهمة جداً بالنسبة لتاريخ الفرد، ويمكنها أن تبين كيف يحدث تغيير الثقافة عبر مرور الزمن.

إن مكونات التاريخ الشفهي هي مكونات التراث الشعبي من: الحكايات، والقصص، والسير الشعبية، والأمثال والحكم، والغناء، والشعر، ومن البديهي أن التاريخ الشفهي لا يُعنى بالترتيب الزمني للأحداث أو تسلسلها، فرواة التاريخ الشفهي لم يحفلوا بالتحديد الزمني، فهذا التاريخ يحكي عن أخبار جرت رأى الناس أنها مهمة دونما اهتمام بتحديد وقت الحدث.

هذه المادة مع إخضاعها للبحث والنقد التاريخي، ووضعها في سياق بيئتها الاجتماعية والتاريخية والجغرافية، يمكن أن تسد بعض الفراغ التاريخي، وتفسر بعض الظواهر الاجتماعية، فتعطينا صورة حية للماضي، أو تجعل الماضي حياً ينبض أمامنا.

في الحقيقة إن التاريخ الشفهي يسد كثيراً من الثغرات التاريخية التي سكتت عنها المصادر، كما أنه يعطينا تاريخاً للجماعات والقرى التي لم تتناولها المصادر التاريخية أساساً، أو أن ما ورد بشأنها كان طفيفاً.

ويمكن القول بأن التاريخ الشفهي هو عمل "طارئ" ينقذ الشهود والأحداث والحكايات من الاختفاء والتلاشي، فموت الشاهد يعني موت الحكاية التاريخية وتفاصيلها، وموت جزء من حقيقة الحدث بطبيعة الحال.

ونرى أن الرواية الشفهية عندما تتوافر فإنها تُثري الرواية التاريخية الموثقة وتعطيها بعداً إنسانياً فيه آمال وآلام، وليس مجرد سرد للوقائع والأحداث بطريقة لا حركة فيها ولا شعور.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد