الحب…السماء التي بداخلنا

إنّ كلمة حُبّ في اللّغة العربية كلمة مفردة لا جمع لها كوحدانية الله في تفرّده؛ لذلك فإن الحب هو الله، والله هو الحب، وحين يُصلّي المرء إنما هو يمارس طقوس حُبّه في ملكوت الخالق الذي جُبلنا على المحبة المطلقة لكل خلقه، فأحببناهم في الله وأحببنا الله فيهم.

عربي بوست
تم النشر: 2017/03/08 الساعة 00:55 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/03/08 الساعة 00:55 بتوقيت غرينتش

يقول أرسطو: "إن الحبّ الّذي ينتهي ليس حُبّاً حقيقيّاً"، فالحبّ -وكما وصفه سقراط- شوق لا متناهٍ إلى الخلود، لكن لماذا اقترن الحب بالموت؟ لا أحد يستطيع أن يُنكر أن جُلّ قصص العشق الخالدة في فراديس الذاكرة الإنسانية وأغلب الأساطير تنتهي دائماً بموت أحد المحبّين أو كليهما؛ حتى إنّ أدباء هذا الزمان وصُنّاع الأفلام لجأوا إلى موت المحبّ كوسيلة شذّت عن المألوف لإنجاح أعمالهم الفنية لما فيها من تأثير يعصف بالأذهان، فيكون من الصعب نسيان العمل وأبطاله، ولعلّ من أشهر الأمثلة المعاصرة لهذا هو فيلم تايتانيك الذي اقتبس عن قصّة حقيقيّة، انتهى الفيلم بموت الحبيب الذي ضحّى بروحه في سبيل حياة حبيبته فبقيت صورته تنبض حتى الآن في وعي المشاهدين الذين تعاطفوا مع مأساة هذا الحب الذي شقّ طريقه للخلود في توليفة الفيلم الأخيرة.

من الكلاسيكيات العالمية الأشهر نجد مسرحيّة روميو وجولييت، التي حفظها الصغير قبل الكبير، حتى أن العشاق يُنادون بأسماء روميو وجولييت تيمناً بمدى صدق الحب الذي جمعهما وساقهما إلى مصيرهما المحتوم، وهو الموت، بسبب الصراع القائم بين عائلتيهما.

كما لمع اسم قيس بن الملوح في سماء الأدب العربي، وهو الذي اشتدّ عليه أمر زواج حبيبته التي غُصبت عليه، وعظُم عليه تحمّل ذلك فهام على وجهه مُنشداً أشعاره الخالدة إلى أن وُجد ميتاً في البرّية؛ ليُصبح أيقونة أخرى من أيقونات الحُب والفداء في زمن أبى إلا أن يُسيل المدامع والدماء والأقلام.

من بلاد الرافدين يُدوّي صدى عشق شيرين وفرهاد ما بين النهرين، فكان حُبّهما الذي بدأ في المنام حين رأى كل منهما الآخر إلى أن وجد فرهاد حبيبته، قد انتهى بدمائهما تسيل نهراً ثالثاً بين الجبال؛ حيثُ قَتل فرهاد نفسه حين أخبروه كذباً أن شيرين ماتت فلحقت به فور علمها بموته؛ لتنبُت على قبريهما كل سنة زهرتان تُفرّقهما شوكة تمنع اجتماعهما حتّى بعد الموت.

قد يكون الحُبّ كما كيوبيد ابن آلهة الحُبّ والجمال أفروديت في الميثولوجيا اليونانية، الطفل ذو الجناحين الذي يُرسل أسهمه ليقع الجميع في الحُبّ والظاهر أن تمثيل الحب بصورة طفل إنما يرجع إلى الإحساس بالولادة مُجدداً بوُلوج عالم البراءة الطاهرة عند الوقوع في الحب فيشهد المحبان الكون معاً وكأنها المرة الأولى التي يفتح فيها الوليد عينيه، لكنّ البين والحزن سُرعان ما يطرقان أبواب المحبّين حين تتكاتف قُوى الشرّ لتحرق الأفئدة بنار الفراق المُستعرة فيلجأ المحبّ إلى معراج الخلود مخافة الموت في ذاكرة الحبّ؛ لذلك فقد سعى الإنسان منذ أقدم العصور إلى الحصول على زنبقة الخلود، لكنه ظلّ حلمه المستحيل؛ إذ ما من قوّة استطاعت قهر الموت.

ولكن الإنسان نجح في قهر قرين الموت ألا وهو النسيان، فتوصّل منذ القدم إلى أن الخلود ليس بالقيمة المادية؛ بل هو قيمة معنوية نجح بالسعي الدؤوب وراءها إلى بلوغ إكسير الحياة وتحقيق الأبدية على وجه هذه الأرض الفانية، فبخلق اسم خالد لا يكون الموت نهاية للوجود بل بداية حقيقية له، تماماً كما فعل الملك السومري جلجامش الذي كان ثلثاه إلهاً والثلث الباقي منه بشراً، فجعله ثلثه الفاني يبحث عن سر للخلود كما الآلهة، يصارع جلجامش خلال ملحمته الأسطورية نحو سرّ الخلود إلى أن وجد عُشبة الحياة التي سرعان ما سرقتها منه أفعى لتحصد وحدها الخلود المنشود، فحزن جلجامش على خسارته وعاد إلى دياره؛ ليكتشف أن السور العظيم الذي بناه حول مدينته أورك هو سر الخلود، وليس سواه.

لطالما نجح الحُبّ في انتزاع الإنسان من تمركزه حول ذاته النرجسيّة، فتتحول حياته التي كانت تصُبّ في دائرة الأنا إلى ممارسة الأخذ والعطاء اللامتناهي، فحُبّ الأم لابنها كما حُبّ الإنسان لأخيه الإنسان، وحب القرين لقرينه، وحُبّ المخلوق للخالق، كُلّها تقوم على وهب الذّات المُطلق للآخر كطقس من طقوس تحطيم الأنانية التي حُرّمت عليها جنة الحُبّ منذ بدء الخليقة، فالحب عطاء بلا سؤال، وانعتاق من كل ما تطلبه النفس التي اغتسلت في بحيرات النور والضياء في فردوس الحب، هنا يبدأ الحب الذي يعانق في طُهره مشاعر الأمومة وفي قُدسيّته جلال الآلهة.

إن كل حُبّ عظيم إنما هو عالم لا متناهي الجمال مستقلٌ لا يُشابه غيره من حالات العشق السابقة له ولا سبيل لمقارنته معها، فكل روح ولجت محراب الحب واحتست كأس الجنون الأفلاطوني الذي امتزج فيه النور بالظلام، وتعانق في سمائه القمر والشمس وارتطمت داخله الحرب بالسلام، قد عاشت كل ذلك كتجربة متفرّدة لا تحاكي أمثالها من التجارب مهما تشابهت.

ورغم تعدد أنواع الحب ولغاته فإن أحداً لم ينجح في تحديد ماهيته الزئبقية فبقي سرّاً إلهياً يترفّع عن كل محاولات التعريف به ويندّ عن كل فهم له، لكنه على طبيعته هذه يُكسب الوجود البشري معنى وقيمة لكونه "أعمق تجربة ميتافيزيقية عرفها الإنسان" على مرّ العصور، وهو ما جعل جميع الديانات منذ الأزل تقوم على الحب كأقدس فضيلة في حياة من جُبلوا من طين ونور.

وعلى اختلاف أنواعه وتباين تجاربه، فإنّ الحُبّ يتّفق على مذهب واحد وينبع من منهل واحد ألا وهو الله باعتباره المحبة السرمديّة المُطلقة، لكنّها شاءت أن تُذيق الإنسان كؤوس المُرّ؛ ليُؤمن أخيراً أن الخلود للمعبود فيكون الحُبّ الأبقى والأصدق لخالق هذا الكون الذي لا تراه العين، فتُبصره الروح بعين القلب المشتاق لوجهه الكريم.

إنّ كلمة حُبّ في اللّغة العربية كلمة مفردة لا جمع لها كوحدانية الله في تفرّده؛ لذلك فإن الحب هو الله، والله هو الحب، وحين يُصلّي المرء إنما هو يمارس طقوس حُبّه في ملكوت الخالق الذي جُبلنا على المحبة المطلقة لكل خلقه، فأحببناهم في الله وأحببنا الله فيهم.

لعل حُبّ الإنسان المؤمن لربّه هو أعظم تجليات العشق الذي يرتقي بالمرء إلى مراتب الملائكة المبرئين، فيُحب الإنسان إلهه دون أن يراه ويعبده حُبّاً وإيماناً ينبض إخلاصاً، ومن هنا، من روضة الإيمان العميق تبدأ تربية الإنسان السليمة على أن يتّبع سجايا الإنسانية النبيلة في الحُبّ الطّاهر من كل دنس دُنوي قد يخلط بين معناه الإلهي وما عجز عن فهمه العقل البشري، فيجد الإنسان نفسه أمام سبيل العشق الذي لا يفنى ومعين الوفاء الذي لا ينضب.

قد تكون الحياة وهماً يعيشه العُشّاق ممن ماتت أرواحهم في غياب المحبوب وسقطوا سهواً من مقلمة التاريخ الذي لم يُسجّل أسماءهم بجانب من سبقهم من العشاق، فلم يجتازوا ظلال الموت، وقد يكون الموت شفاء لأرواح ناجت اللقاء ونشدت البقاء، لكنها علِقت في برزخٍ أبدي بين العناق والفراق، فولجت أرض الخلود؛ لتحيا حياة أبدية بدأت في الدُّنى؛ لتكتمل في السماء.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد