كان يجلس في غرفته وحيداً بالساعات، لا صوت إلا أنيناً مكتوماً يجاهد نفسه في إخفائه، فأكثر ما يكرهه هي لحظات الشفقة في العيون، يراها فاضحة له، تتخطى كل حدود جسده وتصل إلى قلبه، تجيد الطعن فيه وهو الذي هجرت كل طيور السعادة قلبه، هجرة يتمنى أن تكون مؤقتة، وأن يعود كل طير إلى موطنه في نهاية الأمر، يخاف أن تضل طريق العودة، لكن أكثر ما يخافه هو أن ترفض العودة من الأساس.
"- ليتني قيدتَها
= أكنت ستفرح ببقاء من لا بد من رحيله؟!
– وهل أنا فرح الآن؟!"
"فلتقبل علينا".
وصله صوت أمه أخيراً، خفيفاً هادئاً يتحدى أصوات عقلِه الصاخبة، يكره أن يترك سؤال أمه معلقاً بدون جواب، تلك المرأة التي سمحت له أن يأخذ جزءاً من عمرها، وترجت الحياة أن تأخذ قليلاً من آلام الأم بشرط أن تكون خفيفة على ابنها.
إن تكلم الآن سيفضح صوتُه دموعَه التي لا يعلمها سواه، كانت دافئة تنساب في رقة تتخذ على خديه مساراً كأنها فرحة لا تصدق أنها أخيراً هربت من تلك النار المشتعلة في قلبه إلى برودة خديه.
بعد طول محاولة ووقتٍ مر صعباً علي أمٍّ تكره تجاهل ابنها، قال سليم: "حاضر يا أمي".
تضرب الكلمة قلبَ أمّه بلا هوادة، يُخفي ألمه عن أمّه التي حفظت كل حالاته ويظن أنه يخدعها، تسمع في هذه الكلمة دمعَه وأنينهَ ووجعَه، تتمنى لو خلعت قلبَها وأعطته إياه كي يهنأ بحياته قليلاً.
كان سليم في هذه الفترة يبحث عما يجفف دموعه، لا يبحث كثيراً، فالعلبة فارغة، "حتى مناديلي هجرتني"، يبتسم ابتسامة انكسار خفيفة، ويضع يده في كومة ملابس ليُخرج شيئاً يمسح به دموعه، فإذا هو ذلك القميص الذي أهدته حبيبته إياه قبل رحيلها، يمتلئ برائحتها وذكريات سعيدة سابقة، وهل أشقى على المرء الحزين من الذكريات السعيدة؟!
يتذكر أنه لم يُخلق بائساً، كان سعيداً يوماً ما، وكانت البسمة لا تفارقه، وقلبُه أدمن الرقص ووجد فيه راحته، أحب الموسيقى، وجاءت هي فشاركته كل ما يحبه، حتى إذا رحلت لم يجد شيئاً يُمتعه، يتذكر أنه أهداها يوماً "بعيد عنك حياتي عذاب"، ويذكر أنها لامت ذلك البعيد على الاستغناء عن حب كهذا، وعاهدته على البقاء دوماً والاستمتاع بتلك الموسيقى دوماً، حتى رحلت.
وأصبحت الموسيقى عذابه الدائم، يرى حبيبته في كل أغنية، يرى تمايلها مع الألحان وطربها بالكلمات، يرى وعودها التي ظنها حقيقية، تندفع الذكريات كالفيضان يجتاح عقلَه ويجعل قلبَه وحيداً بلا ملجأ في بحر ذكرياتها، ذلك البحر الذي عرفه هادئاً لا موج فيه ولا صخب، أصبح مليئاً بدواماتٍ لا تقتله لكنها تعذبه بالتدريج.. ليتها قتلته.
"متى أنساها؟!"
حدث نفسه كثيراً بذلك، لا يعلم هل حقاً يُريد نسيانها وهو الذي يصحو كل يومٍ على أمل رسالةٍ ضاعت فيها أحلامه.
تأمل القميص طويلاً، فرأى وجَهها فيه، يريد أن يتخلص منه حتى يرحم نفسَه قليلاً، لكنه لا يقدر على محوها من ذاكرته للأبد، يتأمل القميص طويلاً ويَشُدُّ عليه بيديه لا يريد تركه، ويدُه الأخرى تريد تقطيعه.
يتذكر أمَّه التي تنتظرُه في الخارج، يترك القميص على وعد طالما أخلَفَه بأن يتخلص منه عندما يعود.
ويرى أمه واقفة، عيناها مثبتتان عليه، تفضح سرَّه المكتوم وترى بؤسه واضحاً، يعلم أنه فشل في خداعها كالعادة، فيكتفي بالارتماء في أحضانها لعله يهدأ.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.