للهزائم طعم واحد دوماً إلا الهزيمة أمام البياض، في أحيان كثيرة يكون المنظر أجمل دون تدخلنا، إلا أننا نفضل ترك الأثر ولو كان مشوهاً بعض الشيء، قد يكون السبب غريزة الخلود فينا.
أمام بياض الورقة يختلف الأمر عندما تبدو الصفحة نقية خليّة من خطوط متعرجة وأنصاف دوائر ترتسم بخطوط أفقية متوازية، لست -هنا- بصدد عن الكتابة كوظيفة أو دواء أو تفسير لها كحاجة إنسانية، وإنما لأتحدث كي أشكو نفسي إلى الكلمات، قدري ككاتب يكبر ويعظم كلما أمسكتُ بعنق الكلمات وأقنعتها بجدوى حبسها وتلويثها للبياض، السماء الصافية التي لا طيور بها تبدو أنقى ولكنها بلا روح، الطيور التي تحلق عالياً وغازات الكربون وبعض الأكياس البلاستيكية تجعل المشهد أقرب متحركاً وحياً.
حكايتي معه لا تخلو من هزائم وانتصارات، ومواجهات مؤجلة أو منسية، وبهذا أجد مهرباً ملائماً ومستراحاً إلى حين، ولا تفتأ الحاجة إلى تلويثه تداهمني مرة أخرى، فأسكتها بمطلع نص يظل مكانه فلا البياض يعود ولا الفكرة تكتمل، إذن عادة التسويف تتجلى مرة أخرى ببشاعة.
دوماً أتساءل هل القصة أو الأدب أو الفن عموماً يستحق إفناء عمرٍ من أجله؟ ألمع الكتاب العالميين وأغزرهم إنتاجاً عاشوا يطاردون الكلمات وجمعوا منها حظوظاً وفيرة، عندما أعود إلى أئمة الكتابة في أدبنا العربي أجدهم في الأصل متفننين في علوم كعلوم الشريعة أو العربية أو الفلسفة ثم الكتابة أخيراً كأداة حسنة لتقديم خلاصة أفكارهم، أي تجد ألقاب أحدهم مختومة وكان أديباً وقبلها ما قبلها كأبي حيان التوحيدي والجاحظ وبقية الثلاثة الذين انتهت إليهم إمامة النثر في رأي العلامة علي الطنطاوي، وهما الغزالي، وابن خلدون.
يدوماً يمر بخاطري: في تراثنا حط من منزلة الكاتب/القاص إذ القص تهمة تسقط العدالة عن صاحبها، أدرك تماماً اختلاف الأمرين، إذ ليس هناك أي حط، فالمشكلة ليست في القصة أو ناسجها وإنما في توظيفها وتقديمها كحديث نبوي في عصور التدوين، ورغم هذا تبقى الوصف السلبي لـ"قاص" مقيمة فيّ، وأتذكر بعدها كيف انتصر القرآن للقصة، وهذا معلوم لمن قرأ ولو قدراً يسيراً منه.
وفي العصر الحالي تجلت أهمية الفنون وفرض التخصص هيمنته، ولهذا ثمرتان حلوة ومرة، كل تخصص ناله من المكانة والإشادة ما ناله إلا الفن، والسبب تأخرنا كأمة، وبحثنا عن النهوض في حقول الفكر والتجديد ولا تثريب على أحد.
ترغمني الصفحة التالية من مستند الوورد على العودة إلى البياض النقي أو الملوّث، فقبل أيام كنت أتفقد بعض الملفات بحاسوبي، فوجدت شذرات ومشاريع قصص، وكما تقبع في ذهني فكرة كتاب جديد تُلزمني زيارة ليمن الله الحزين -عجل الله فرجه- كي أشرع في كتابته، وكما أتذكر النصوص التي بمذكرة الجوال التي أفر إليها لأكتب، فآخر نص كتبته في المذكرة وأنا متجه إلى معرض الكتاب المستعمل، وسأضع بعض النص هنا، وأسبقه بالشذرات التي تحتاج إلى تنقيحات وبعضها يستحق الحذف النهائي:
– العمر قصير والحياة ليست حقل تجارب، فرُبّ تجربة لا يخرجك منها سوى الموت.
– إذا وقع الحب رفعت الملامة.
– أخلو دائماً بنفسي فيظنني الناس محباً للعزلة ولا يدرون أنني أحب الاجتماع بذكراك.
– الخيبة خيار العرب الاستراتيجي هذه الأيام!
– كلما قرأت عن الحب زدت جهلاً به، الحب يُعرف بالممارسة.
– الحب: شعور غامضٌ في الجَنان، وذكرٌ للمحبوب باللسان، وقُبَل وأحضان، يقوى بالوصل، ويضعف بالهجران.
– لا تخف إلا من خوفك، ولا تفر إلا من ترددك.
– كتابة القصة عمل كحمل طن من الشوك بلا قفازات.
– عندما تجري الرياح فإنها لا تفكر في المراكب.
– ضعت وأنا أبحث عن دروبي ثم ضعت في دروبي وأنا أبحث عني ثم ضعت فيّ!
حسب الملف، فإن هذه الشذرات كُتبت قبل عام ونصف أو أكثر، ولولا المصادفة لما وجدتها، وهنا أجد نواة نص ساخطٍ عن الكتابة:
يقول ماركيز في مذكراته: "قال لي إذا استطعت العيش من دون الكتابة فافعل!"
حتى هذه اللحظة لا أدري كيف يعيشون بالكتابة أو من أجلها!
الكتابة عملية انتحارية، ألم شديد يندفع فيّ لأتخلص من آلام قد تخطئ وجهتها إليَّ.
أن تكتب معناه أن تعصر ذاكرتك المتورمة -أصلاً- حتى آخر قطرة ساخنة، الكتابة بحث عن مآسٍ مرت بك فتحاول أن تستريح منها بعد فقدها سطوتها لتقادمها، وقد تكون فرصة كي تعود فتعكر مزاجك، فميكروبات الفجائع لديها قدرة خارقة على التكيّف، الكتابة هي الاحتفاء بالصديد الذي ينز من أصابعك فتلعقه بنهم!
أن تكتب معناه البحث عن مصاب شخص غريب، كيف تعيش حزناً مستعاراً لم يفصل لك، فتكتب عن قهر لا تشعر به، فتبني من ارتعاش يد الغريب أو من خنادق الدمع على خده نصاً تقرأه فيصفقون لك، تخيّل أن ترسم لوحة من دمٍ قتيل، أو تأخذ شيئاً من شعرها لتصنع فرشاة، أو تصنع من عظم فخذه ناياً لتغني به.
إن الكتابة كتلك البشاعات أو أبعد، فلا فرق بين الذي ضحيته من أجل الحب أو الذي يقتله من أجل الكره فلون الموت واحد، إنه لا يهتم بالتفاصيل.
كل كلام يطول عن حده يفقد وهجه؛ لذا لم يبق سوى القول: ربنا أفرغ علينا صبر وثبت أقلامنا في مواجهة البياض.. والسلام.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.