بين إهانة المعابر وفقدان الأوطان “3 – 3”

أصابه البرد فلم يستطِع أن يتنفس عانى كثيراً بسبب الرطوبة وتقلبات الأجواء في الشمال الأوروبي، هاجر من كرن؛ حيث المناخ الجبلي والموسيقى الطازجة، كان قاصاً مثالياً يجيد اللغة العربية وعدة لغات محلية وكان تفاهمنا سهلاً بسبب إذابة معظم الفوارق وانعدام الحواجز اللغوية والثقافية.

عربي بوست
تم النشر: 2017/03/04 الساعة 01:56 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/03/04 الساعة 01:56 بتوقيت غرينتش

لم أنسَ أرضي حيث كنت في الإشراقات الدافئة أستمتع بشدو الطيور وزغاريدها في الغابات الحاضنة بالقرود والأفاعي والنمور الاستوائية، وفي الصباح الباكر يتعالى صوت الأطفال وهم في حلقاتهم القرآنية يرددون الآيات، الأطفال في الريف الصومالي مقسمون بين الرعي والزراعة والتعليم، كنا نغدو بأجسامنا ونظراتنا الطفولية إلى مزارعنا المليئة بالخضرة وألوان الحياة، في القسم الشرقي الذي لا يبعد كثيراً عن الساحل كنا نزرع الذرة والفاصوليا والسمسم، وكنا نزرع الموز والمانجو والباباي في الجانب الجنوبي المطل على النهر.

الأراضي الساحلية بين قريتي والمدينة كانت مركزاً للجنود الإيطاليين منذ أن سنّ برلمانهم قانون الصومال الإيطالي (Somalia Italiana) عام 1908م، وكانوا يستخدمون المنطقة كقاعدة عسكرية منذ أن اشتدت وطأة النضال الموجهة إليهم، كانت المعارك كثيرة والتنكيل مستمراً، والمقاومة تتجدد في كل جيل، وعلى بعد 12 كم شمالاً وفي الجسر المرتبط بين المدن والسهول الساحلية وقعت معارك عنيفة بين الثوار وبين المحتل الإيطالي، كانت المعارك عنيفة تسطو عليها البنادق والسيوف والمدافع، وبعد مرور أكثر من قرن ما زالت الميادين تشهد بسالة النضال وعظمة المواقف.
غادر الأوروبيون الأراضي الصومالية وانتهى غدرهم ولم ينتهِ الألم، بل امتد في رحاب الزمن وربوع الجغرافيا حتى سيطرت حركات السفه السياسي على ربوع الوطن مما أجبر الكثيرين على الفرار إلى المهجر بحثاً عن الذات وقدسية النفس التي حرم الله إلا بالحق، جئت أوروبا أحمل مزيداً من الطموح والشوق، ولكن اختلاف الأديان والثقافات تحول بيني وبين الأهداف المرسومة على دفتر الأماني وما أكثرها في الغربة!

على شاطئ الثلوج جلست أتأمل قسوة الحياة والتناقض المناخي بين هذه المنطقة وبين قريتي، هنا من الصعب أن يعيش الدّب فما بالك بإنسان جاء من أقصى القرن الإفريقي؛ حيث تتوهج الشمس طيلة أيام السنة، التكيف في الحياة الباردة وكثير من الوجوه التعيسة والملامح التي غطتها البرودة الممزوجة بالأنين كان تحدياً ينسيني وخز الطبيعة ونوبات السعال المتصاعدة عن الخيمات.
الليل هنا متشابه مطلي بالظلمة والزمهرير، ولا فرق بين الليالي المقمرة أو تلك التي هيمنها الدجى. النجوم الإفريقية المسطحة على هامات الدروب السماوية، وحميمية النسائم الاستوائية تغتال الأسى في رحم الغيب، أما ليل المخيم فهو عبارة عن شبح يطاردنا ويبعدنا عن حيوية الحياة.

في العنابر الجنوبية حيث الجناح الآسيوي تزوجت كمبودية سمينة من ميانماري أسمر، نشب خلاف حاد بين الجاليتين؛ حيث كانت الفتاة من أسرة بوذية متطرفة تأبى مخالطة الأديان الأخرى، بينما كان الولد مسلماً هرب من بورما بسبب الإبادة الجماعية ضد الأقلية الروهينغية، التطهير العرقي الذي تقوده امرأة حائزة جائزة نوبل للسلام، ويا لَعار الجوائز المسيّسة والتكريم المبني على المحاباة، ويا لَعار العالم والسقوط المدوي للأخلاق! المسألة الروهينغية عرّت الأخلاق الفاسدة للطغمة الحاكمة في ميانمار والعالم بكل أصنافه ودوله ومعتقداته؛ حيث يمارس ضد هذا الشعب الأعزل أسوأ أنواع الظلم والتهجير القسري والإبادة على مسمع العالم بل وبمباركة دولية أحياناً.

الحب لغة عالمية وإرث إنساني، ومن المفارقات أن الحب لا يعترف بالحدود ولا القيود وإلا فكيف يحب الضحية الجلّاد؟ وكيف تنشأ الأحاسيس بين قلب ملأه الأسى وأنهكه التعب والبحث الدؤوب للأمن والإنسانية ولقمة العيش في القرن 21م؟ هرب من أجل أغلبية بوذية متسلطة تلغي التعددية والمواطنة وتربط الدين بالانتماء وتحارب التنوع الثقافي والعرقي، كان قبل أسبوع يحدثنا بلغته المحلية ويترجمها أراكاني آخر بسويدية ركيكة، حدثنا عن المحرقة والإبادة الجماعية وموجات البطش الموجهة لتلك القومية التي ذنبها الوحيد أنها مسلمة!

أتعبني التفكير فاستسلمت لكرى أرسلتني إلى النهر والأزقات الضيقة بين الغابات قبل أن أصحو بضجة رهيبة تتصاعد من الخيمة المجاورة التي يسكنها إريتري باذخ الطول كث الشعر هاديء الملامح، جاء قبل شهرين يحمل أمنية تتمدد في قلبه بمرور الزمن ومرارة تركت على نفسه رسوبات من القلق والتشاؤم، صفعة مؤلمة تلك التي تحدث للأجيال المناضلة بعد انتظار طويل، الجموع الإريترية التي ضحت المهج والأرواح من أجل الاستقلال كانت تمني النفس انتهاء الاستعمار الأسود وكابوس اللجوء وليالي التشريد في دول الجوار وكل أصقاع العالم، ولكن بعدما ذهب الاستعمار وجاء الاستبداد تحولت الحياة إلى جحيم لا يطاق واختفت الأماني وراء سراب الدولة الشمولية التي مارست العنف وكل ما يعف عنه الوحوش، وظلم ذوي القربى أشد مضاضة من وقع الحسام المهند.

أصابه البرد فلم يستطِع أن يتنفس عانى كثيراً بسبب الرطوبة وتقلبات الأجواء في الشمال الأوروبي، هاجر من كرن؛ حيث المناخ الجبلي والموسيقى الطازجة، كان قاصاً مثالياً يجيد اللغة العربية وعدة لغات محلية وكان تفاهمنا سهلاً بسبب إذابة معظم الفوارق وانعدام الحواجز اللغوية والثقافية.

حدثنا عن أسرته الصوفية العريقة ومراحل الدراسة، والده عاش في مقديشو إبان الثورة الإريترية وكان يحمل جوازاً صومالياً دبلوماسياً يتيح له السفر من أجل قيادة الثورة وتأمين متطلباتها السياسية والعسكرية والاقتصادية والدبلوماسية، ذات مرة تسامرنا على وقع صرير الأغصان وسوط البرد القارس، كان عاشقاً لمدينته التي ذكر أن اسمها يعني الرخاء والنماء والجمال الطبيعي، الأسماء والطرقات الخازنة لأحداث التاريخ ومشاهد الحضارة كانت تعيد ذاكرتي إلى أحياء بربرا المدينة العريقة التي تؤرخ آلاف السنين من الحضارة والتراث الصومالي؛ إذ كانت معبراً مهماً لسفن التجارة العابرة نحو الحضارات القديمة، وحسبما ذكر ابن خلدون في تاريخه بربرا هي المدينة التي ذكرها امرؤ القيس بشعره:
إذا سافه العودُ النباطي جرجرا ** على لاحبٍ لا يهتدي بمناره
بريد السرى بالليل من خيلِ بربرا ** على كل مقصوص الذنابي معاود

لأن الشاعر الجاهلي الذي عاش النصف الأول من القرن السادس الميلادي في الجزيرة العربية لم يكن يعرف في تلك الحقبة قبائل البربر (الأمازيغ) في المغرب العربي.

كان يحمل قلباً يستأنس رواية القصص والملاحم إبّان النضال الإريتري ضد أباطرة أباسينا، "مناخ الحروب"، "عبق الحرية"، "جمالية الاستقلال"، "بسالة المرأة" ألفاظ تلاصق شفتيه حد الإدمان، وكان الدور الصومالي البطولي في هذا النضال يأخذ منه وقتاً طويلاً، فقلت له حسب مذكرات المناضل عثمان صالح سبي، فالصومال منحت أكثر من 30 ألف جواز سفر للثوار في غضون حرب التحرير الإريتري الذي استمر أكثر من 30 سنة.

ما أجمل ملامح الذكريات لمن يمارس الحنين في المنافي الباردة، كان يستمع لصوت مبحوح مسجل في ذاكرة الهاتف كان يشبه لحن طير يغني في منتصف الجبال المحيطة على كرن، هذا صوت أمي، قال بطريقة باهتة تتكئ على حزن دفين، قلت له: ظلمنا الجغرافيا كثيراً وتباعدنا الواقع عن أشقائنا، ولكن إريتريا أرض الأبطال ما زالت تعني لنا بلدنا الثاني منذ أن بزغ الإسلام في شاطئ مصوع وسواحل زيلع، ومنذ أن بدأت أباطرة الحبشة ابتلاع الشعوب وقهر الحضارات بقوة السنان وبمساعدة أوروإفريقية، كم اجتاحتنا السعادة وأنتم ترفعون علم الكرامة على سماء عروسة القرن الإفريقي "أسمرة" وشوارعها، وكانت الأغاني الوطنية والزغاريد على أرصفة شارع "لكمشتاتو" تعني نهاية الظلم وهزيمة المحتل، وانتصار جيل ومبادئ طالما حملناها نحن منذ مؤتمر برلين وما تبعه من الهزائم والمحن، الذي قسم الوطن التاريخي لأمتي إلى دويلات وكيانات منفصلة.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد