حزمت أمتعتها وتأكدت أن غيتارها سيكون بأمان بعد عدة محاولات للتأكد أنه لن ينكسر أثناء التنقل، كانت رحلة قاسية جداً، فهروبها من بيتها لم يقل صعوبة عن وصولها لبلد غريب في رحلة عبر قوارب الموت إلى شواطئ إفريقيا، قضت فيه فترة طويلة قبل أن ترحل مرة أخرى للبحث عن فرصة للسفر لبلد أوروبي.
ملخص بسيط لمعاناة عازفة يمنية هربت من الموت المحتوم الذي اتخذ من اليمن مقراً له، بل إنه أصبح أمنية للكثير من المثقفين الذين تحولوا لباعة متجولين في الأسواق، نعم فهنالك حالة واحدة على الأقل من العازفين من مدينة عدن -نتحفظ عن ذكر اسمه- تحول من عازف على آلة الكمان إلى بائع متجول يبيع البيض المسلوق لرواد الأسواق الشعبية، ولسان حاله يقول: لا أستطيع تناول طعام الغداء.. لا أجد لقمة العيش، فكيف سأجد متذوق الفن؟ فالفن أصبح نشاطاً محرماً بسبب القوى المتطرفة المسيطرة على الأرض فمن أنصار الشريعة "القاعدة" إلى الحوثيين، لا يوجد فرق بينهم في ملاحقة الفنانين، وعلى الرغم من اختلافهم المذهبي فقد اتحدوا على فتوى تكفير الفنانين، وجواز تطبيق الشريعة عليهم، وهكذا أصبح المثقفون والأدباء الفريسة المفضلة للتهجم عليهم من قبل رجال الدين المسنودين بأتباع متعصبين تجاه كل ما يخبرونهم به، مما حول المثقف إلى فريسة سهلة يتهافت عليها الجميع لتطبيق الشريعة.
فجريمة مقتل الفنان نادر الجرادي في إحدى حفلات الأفراح بمدينة صنعاء منذ ما يتجاوز العام دعت الكثير من الفنانين للتوقف عن تلبية أي دعوات للغناء في الأعراس خوفاً من التعرض لنفس المصير، بعد أن لقي مصرعه إثر خلاف مع أحد أقرباء العريس، الذي لم يتوانَ عن قتله؛ لأنه يعلم أنه فنان ولا قيمة له.
ولا يتوقف هاتفي من تلقي مقاطع لاعتداءات متكررة تجاه العازفين، أبرزها قيام أحد الحوثيين بمهاجمة عازف على آلة "المزمار" في حفل عرس شعبي دون أن يقوم الحاضرون بأي ردة فعل تجاهه؛ لأنهم قد تشبعوا بمنطق أن هذا العازف ليس إلا "مزمر" ناقصاً لا قيمة له.
كان هذا جزء من الصورة الداكنة لحال الفنانين والمثقفين في اليمن، أما عربياً
فلم يعد المثقف والفنان في المنطقة العربية يهتم بصناعة ثقافة ووعي حقيقي؛ لأن كل محاولاته باءت بالفشل، أصبح على اقتناع، وأن عليه الهروب واللجوء إلى أقرب دولة تحترم الفكر والثقافة كحل دائم؛ حيث سيجد هنالك من يحترم اختياره بأن يكون إنساناً ذا إنتاج فكري حر غير مقيد وغير مساءل.
فهو لم يعد يطيق العيش في مجتمع أمي يعتبر فيه نزول المثقف إلى العامة نوعاً من الانتحار غير المباشر، فهنالك فجوة حقيقية بين الشارع والثقافة، ويلخص ذلك جواب أي شخص في سوق شعبية: "إحنا مش لاقيين ناكل.. بنلاقي وقت نقرأ".
عبد الجبار السهيلي فنان يمني استطاع الهروب بعيداً إلى أرض السويد، ولحسن حظه حصل على إقامة فنية بالتعاون مع إحدى المؤسسات الثقافية السويدية، نشر على صفحته بموقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك" قائلاً إنه منذ وصوله أخبره الناس بأنه يمكن لابنتيه الحصول على راتب من الدولة، لكنه على استحياء قال: يكفي أنني أتسلم مرتباً منهم، لا داعي لأكثر من هذا، ليفاجأ بأن مصلحة الضرائب تتواصل معه لتخبره أن عليه الحضور لتسلم مرتبا تتكفل به الدولة لابنتيه! منشوره كان يعبر عن صدمة حقيقية فهو كفنان لم يكن يجد من يصرف له مستحقاته المتراكمة في اليمن، فكيف أصبح لابنتيه وليس له فقط مرتب؟
أيها الفنانون.. اذهبوا إلى السويد، ففيها ملك لا يظلم عنده أحد.
وعلى صعيد موازٍ، نحن نعاني من كارثة تفوق الحرب العالمية، كارثة أزمة الفكر التي أكبر أخطائها أنها دفعت الجميع للتوقف عن التفكير، والأخطر من كل الترسانات والأسلحة بيد الجماعات المتطرفة، إلا أن يختار المثقف والمفكر أن يرهن نفسه لليأس ويعتزل الإبداع.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.