تربينا على مقولات شهيرة تزعم أن الفكرة من الممكن أن تنتشر رغم قلة المؤمنين بها، وأن الطريق من الممكن أن يصبح مسلكاً عاماً رغم قلة السالكين.
بمعنى أن الأفكار لا تحتاج إلى رجال سمر شداد يسيحون في أنحاء الأرض لنشر فكرة معينة، بعضهم ربما يحمل السلاح لقطع رقاب المخالفين واصطفاء المؤمنين (مثل التيارات الدينية والعقائدية)، والبعض ربما يحملون مِنَحاً وهدايا ومساعدات (مثل الجمعيات الدينية الأهلية والحقوقية وأصحاب المذاهب ومساعدات بعض الدول)، وآخرون يستعملون روح المصالح (مثل الغرب والدول العظمى)، وقليلون يفضلون مفاهيم التعايش والتسامح (مثل المصلحين والصالحين)، وأن المناهج والطرق والأيديولوجيات هي كيان قائم لا يحتاج إلى شغيلة تحمله على ظهورها.
لا أنكر أنني آمنت بتلك المقولات يوماً ما، واعتقدت في صحتها اعتقاداً غير قابل للشك، ولكن مع قليل من التأمل وبعض القراءات قررت أن أبحث عن مدى صحة تلك المقولات.
فى كتابه Extended phenotyping وكتاب selfish gene يطلق ريتشارد داوكنز على الفكرة مسمى ميمي meme، والفكرة في الأصل هي عبارة عن مجموعة من الروابط العصبية في مخ المفكر يظهر أثرها عليه في تصرفات معينة ولغة وحوار وسلوكيات وطقوس، (على سبيل المثال الجماعات والرموز الدينية لديها مظهر معين ولحية طويلة مثلاً، صليب معلق في الرقبة، بعض الجماعات تتصرف بعنف، اليساريون مثلاً يظهرون بملابس رثة وينعتون زملاءهم بالرفاق، الليبراليون يفضلون التبرج والحرية الشخصية.. إلخ)، مثلها مثل الجينات تماماً، التي هي عبارة عن أحماض أمينية بشفرة معينة يظهر أثرها على الفرد في شكل طول الشعر ولون العينين وحجم الأنف والجبهة.. إلخ.إذن فالفكرة والجين هما شيء ملموس فيزيائياً ومادياً.
الجين لكي ينتشر يقوم بنسخ نفسه مرات ومرات حتى يكون أسرة وعائلة ثم قبيلة وقرية فمدينة، ثم بلد، وهكذا فيما يسمى بالتناسل والتكاثر.
نفس الحال بالنسبة للفكرة تنتقل من مخ صاحب الفكرة إلى أمخاخ الآخرين؛ لتقوم بنسخ نفسها مرات ومرات مثل الجين تماماً؛ لتكون مريدين ومعتقدين ومؤمنين وجماعات وأيديولوجيات ومجاهدين وثواراً وأنظمة وأتباعاً.
بقاء الجين ووفرته في حمام الجينات مرهون بقدرته على نسخ نفسه أكثر من غيره، فالأعراق والأنساب والقبائل والأصول والبلدان كلها نتيجة قدرة فئة معينة على التناسل عبر أجيال متعاقبة لتحقق في النهاية كياناً وعزوة وقبيلة وبلداً ذات سمات مشتركة يدافع عن مصالح المنتمين إليه.
نفس الحال بالنسبة للفكرة، وجودها مرهون بوجود العقول المنسوخة بها، وقدرتها على الانتشار مرتبط بقدرة الأجساد التي تحمل العقول المؤمنة بها على الحل والترحال والتأثير والتأثر، ولكن الرابط بين أصحاب الفكرة ليس رابطاً جينياً ولا قرابة مثل الأعراق والقبائل، ولا تشابه في الشكل وحجم الأنف ولون البشرة، إنما هو رابط عصبي ذهني يسكن في القشرة المخية ويجبر من يحملونه على التصرف بطريقة معينة، أي يفرض عليهم صفات سلوكية متشابهة مثل الجينات التي تظهر على الأجساد التي تحملها صفات جسدية معينة.
إذن الأفكار ليست لها أجنحة تطير بها فوق الرؤوس وتسافر محمولة عليها عبر الأقطار، الأفكار لها عقول تسكن فيها وأجساد تحملها وسواعد تدافع عنها وألسنة ترويها.
هب أن فكرة ما تولدت في مخ أحد العظماء ولم يقتنع بها غيره هل ستنتشر تلك الفكرة؟
كم من الأفكار العظيمة اندثرت وتلاشت من حمام الأفكار لقلة من آمنوا بها؟!
وكم من الوساوس والهلاوس انتشرت وسرت كالنار في الهشيم في عقولنا بسبب كثرة الأتباع والمريدين؟!
انتشار وقوة الفكرة مرهونان بانتشار وقدرة ووفرة من يحملونها تماماً كالجينات، بغض النظر عن مدى صحة الفكرة أو حيثياتها، فالقوانين الفيزيائية لا تميز بين الجيد والرديء، أو بين الغث والثمين، القوانين الفيزيائية تطيع من يمتطي ظهرها.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.