على خُطى “الاسكنديناف” في ركوب الدراجات

في كل مرة أركب فيها الدراجة الهوائية، أحس كأنني أؤدي رقصة باليه فوق مسرح "دار الأوبرا بالقاهرة"، إحساس غريب ذاك الذي أشعر به كلما هبت ريح النسيم وملأت رئتي شهيقاً يتبعه زفير قوي، وأنا أضغط بأخمص قدمي على دواسة السرعة،

عربي بوست
تم النشر: 2017/02/27 الساعة 00:46 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/02/27 الساعة 00:46 بتوقيت غرينتش

لها بالدارج المغربي "البشكليط"، كلمة تحمل اعوجاجاً في الثقافة المغربية، التي فطم لسان أهل هذه البلاد على لغة الفرنسيين، فأصبحت "la bicyclette – بشكليط" ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالفقراء، وأصحاب الحاجة، الذين لا يتوفرون على ثمن تذكرة ركوب الحافلة، أو "الطوبيس" كما يقال له بلساننا "العرنسي"، أي وسيلة نقل للطبقة الكادحة، والمعوزة، هذه الفكرة نشأت معي منذ نعومة أظافري، لكن على الرغم من ذلك كنت أعشق هذا الاختراع الذي تعدى عمره قرنين من الزمن، وما زال صامداً يقاوم الطفرة الهائلة في مجال التكنولوجيا و"الميكانيكا".. ارتباطي الوثيق بـ"العجلة" أو "السياكل"، كما يفضل إخواننا في مصر والخليج تسميتها، جعل منها رفيقة دربي ووسيلتي الأولى في التنقل، والتبضّع، وحتى في خرجات نهاية الأسبوع.

في كل مرة أركب فيها الدراجة الهوائية، أحس كأنني أؤدي رقصة باليه فوق مسرح "دار الأوبرا بالقاهرة"، إحساس غريب ذاك الذي أشعر به كلما هبت ريح النسيم وملأت رئتي شهيقاً يتبعه زفير قوي، وأنا أضغط بأخمص قدمي على دواسة السرعة، في حركة لولبية سريعة أحياناً، وبطيئة كلما ارتفع مسار الطريق، وأنا أترنح يسرة ويمنة، هذا المشهد أعيشه بشكل يومي رغم الانتقادات اللاذعة التي أتلقاها من البعض، لكن حبي لها يجعلني أصم وأبكم، ودائماً ما أقول في خاطري دعوني أستطعمها وحدي، أكلمها وحدي، أخرج معها في موعد يومي، أتقاسم معها لحظات الفرح والقرح، القوة والضعف.

لنترك قليلاً هذه المشاهد والأحاسيس، ولنعد أدراجنا إلى الشارع المغربي؛ حيث ثقافة المظاهر تطغى بشكل قوي جداً على الأشخاص، عدد السيارات على قارعة الطريق يفوق عدد المارة بكثير، مواقف السيارات هنا في العاصمة الرباط أصبحت بالحجز المسبق، ناهيك عن انسداد الطريق في أوقات الذروة، وعوادم السيارات تنفث الدخان فيصبح سحباً كثيفاً سوداء اللون يزكم الأنوف، كل هذا من أجل سواد عيون الناظرين، من أجل التباهي بماركات السيارات، والموديلات المستوردة، في وسط هذه الفوضى تراني أشق طريقي بانسيابية بين السيارات، أختزل المسافات والوقت، وأصل إلى مكتبي في وقت وجيز وكلي طاقة وحيوية لاستقبال يوم جديد في العمل.

فكرت مليّاً في الدعوة إلى استعمال هذه الوسيلة البسيطة في التنقل للتخفيف من ضغط السير والجولان، كإنشاء نادٍ للدراجات الهوائية، أو جمعية لمصالحة المواطنين مع هذه الوسيلة المفيدة للصحة والبيئة، زاد من حماسي لهذا الأمر حين شاهدت إحدى حلقات البرنامج التلفزيوني "خواطر"، الذي يقدمه الإعلامي السعودي أحمد الشقيري، حين ذهب إلى هولندا وبالضبط عاصمة الدراجات أمستردام، استهواني نمط العيش هناك، هدوء الناس، الطبيعة، حيث وسيلة التنقل الأكثر شيوعاً هناك هي الدراجة، فهولندا تتربع على عرش البلدان النظيفة، كما أنها تعد الأولى من حيث مستعملي الدراجات الهوائية، عمّقت البحث حول هذا البلد الذي دخل منذ سبعينات القرن، وبالضبط خلال أزمة البترول، أو ما سمي بحظر النفط سنة 1973، إلى الاستغناء تماماً على استعمال وسائل النقل بالوقود، واستبدالها بالدراجات، وأنا أبحث عن البلدان الأكثر استعمالاً للدراجة وجدت عاصمة الدنمارك "كوبنهاغن" هي الأخرى مصابة بداء "السياكل"، رغم صعوبة الجو، وهطول الثلوج، إلا أن سكان المدينة لا يجدون بداً من ترك دراجاتهم الهوائية، واستبدالها بالسيارات الدافئة، أو وسائل النقل الأخرى المنتشرة والمنضبطة للوقت، التي تغطي جوانب المدينة أيضاً.

الغريب في الأمر أن هذه البلدان الاسكندينافية تتصدر العالم في كل شيء، في الثقافة، في التنمية البشرية، وحتى في الدخل، فمتوسط الأجور في هذه البلدان قد يصل إلى 30 ألف دولار سنوياً، رغم ذلك لا يبالون بالسيارات الفارهة، والمظاهر الكاذبة، ويلجأون لوسيلة نقل بسيطة، لها فوائد جمة على صحة الإنسان، أذكر جيداً حين كنت أبحث عن عمل في الإذاعات الخاصة بمدينة الدار البيضاء، ولصعوبة التنقل بين شوارع المدينة الكبيرة عبر وسائل النقل المهترئة، وغير المنتظمة في التوقيت، قررت آخذ دراجتي معي لكي أتنقل بسهولة وأستطيع أن أتقدم بأكبر عدد من طلبات العمل في المحطات الإذاعية، كنت قد أخذت موعداً مسبقاً مع مدير إحدى الإذاعات، حضرت في الوقت، وبينما أنا في باب مبنى الإذاعة، منعني الحارس من الدخول لا لشيء سوى أنني جئت على متن دراجة هوائية، ورغم أنني قدمت له أوراقاً تثبت عملي كصحفي، وسبق أن اشتغلت في محطات إذاعية، إلا أنه رفض ورد عليَّ بنبرة ساخرة، صحفي على دراجة، وقفت لبرهة أتفحص في عينيه، ولم أتردد لحظة واحدة وعدت أدراجي قبل أن يتصل بي المدير مرة أخرى ويخبرني أنني تأخرت عن الموعد المحدد، شرحت له الموقف، وحدد لي موعداً آخر، ولكن هذه المرة كان في استقبالي في مدخل الإذاعة.

المدير كان شخصاً لطيفاً، حيث أخبرني أنه قضى سنوات عدة في مبنى الإذاعة والتلفزيون بلندن، وطول فترة اشتغاله بالمحطة العالمية bbc، وحتى قبل ذلك في أيام الجامعة، كانت وسيلة تنقله هي "البايك"، كما يسميها اللندنيون، ولا يجد حرجاً في استعمالها حتى هنا في المغرب، ولأول مرة وجدت شخصاً يقاسمني هوايتي، شخصاً شغوفاً بركوب الدراجة، ولا يقول عنها وسيلة نقل للفقراء والمعوزين؛ بل هي وسيلة للحفاظ على الصحة والجيب.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد