ربع قرن يَفي

واليوم.. يصلُ مركبِي إلى المرفأ الخامس والعشرين، ولولا حاسة سابعة وهبت لي لتمزقتُ وأصبحت نثراً في زوايا الأرض وجهاتها، حاسة إلهية أجد لذتها في غموضٍ أبدي، فتتبسط عليّ المعاني لأرى من خلالها أشعة مضيئة بالإيمان والرضا.

عربي بوست
تم النشر: 2017/02/25 الساعة 01:33 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/02/25 الساعة 01:33 بتوقيت غرينتش

في عيد مولدي الخامس والعشرين: 22 – 2 – 2017.

اعترتني رغبةٌ جامحة هذه المرة، لم أقاسِ في مثلها قطّ، ثلة من المشاعر تجيّشت، والقليل من المنطق سوّر جنباتِ القلب.

خرجت الكلمات بعد مخاض دام عدة أيام، وصل الأمر إلى الشعور بالحشرجة، استفاضت الدموع صباحها دون مبررٍ يُذكر.. انتزعت مني بغمزٍ مؤلمٍ، واهتدت فاستقرت بين سطورٍ مخيطة بخمس وعشرين إبرة!

لا أنفك أجزمُ أن ما ينتابنا من شعورٍ عند الكتابة لا يقلّ عن كونه مخاضاً مزعجاً تنتشي بعده عدّة أيامٍ وليالٍ حتى تستعذبه فتعيد الكرّة وكأن شيئاً لم يكن، كامرأة قاست من آلام الولادة مقاساة مفارقٍ ملازم للموت، إلا أنك إن سألتها بعد أيامٍ هل تعيدين الكرَّة؟ لأجابت نعم!

أظنّ أن الشعور بالألم هو أمرٌ حاجي، نتوق إليه بين الفينة والأخرى، نحنّ لاحتضانه بين جنباتنا ولو بألم رأسٍ لا نبرح نلعنه.

أما بعد:
العام المنصرم حاولتُ الكتابة كعادتي في ذكرى مولدي، إلا أن القلم هاج حتى ضاع، فبعثرتُ عدة كلمات لم أشعر بألمها إلا بعد عامٍ من قراءتها، سألتُ نفسي حينها لمَ كلّ هذا البؤس الذي أحاطني حتى جرّدني من سعادتي، وها أنا ذا اليوم في نعمٍ سألتُ الله غيرها إلا أنّه لاحظني بأعين عنايته حتى حققّ أكثر مما كنت أطلبُ منه.
ترانا نحن البشر قاصرين عن معرفة ما نطلبه، فلذلك أفضل ما يرفع العبد به يديه ما هو مأثور عن نبيه صلى الله عليه وسلم ومذكور بين دفتَي كتابه الحكيم.

واليوم.. يصلُ مركبِي إلى المرفأ الخامس والعشرين، ولولا حاسة سابعة وهبت لي لتمزقتُ وأصبحت نثراً في زوايا الأرض وجهاتها، حاسة إلهية أجد لذتها في غموضٍ أبدي، فتتبسط عليّ المعاني لأرى من خلالها أشعة مضيئة بالإيمان والرضا.

تبدو الأشياء برّاقة في مقدماتها، كحبة ألماس تحيطها الأضواء، وما نلبث أن تبهت في مآلاتها، كتاء الموت التي لا تذرّ شيئاً.
نحن كذلك، تسطعُ شموس أرواحنا بعد جوعٍ يمكث بين جنباتنا لسنوات، حتى نجوع مرة أخرى ولا يروينا حينها إلا الموت، سباقُ جوع من نوعٍ آخر.. جوع للفناء.

وبعيداً عن الكلام الذي لا يستسيغه البعض، أكتب اليوم لأتوّج هذه السنوات ببعض كلمات لا أملك لنفسي غيرها.

أقول:
ربع قرنٍ يفي لأن أسأل إن كان قلبي هبة من الله لي أم من الله له!
ربعٌ قرنٍ يفي لأن يشتدّ بلائي، فأشعر بالفناء اليقيني، ومع ذلك أستمر في مواصلة حياتي كطبيعيٍ لا يطرب الحي مزماره.
ربعُ قرنٍ يفي لأن أفرغ في قلبي سكينة، وأتقي طائلة قلوبهم.
ربع قرنٍ يفي لأن أشكر كل من دخل حياتي، اعترض مسيري فعلمني حتى تأدبتُ.
ربع قرنٍ يفي لأن أعلم أن حياتي بما هي عليه الآن نعيم مترامي الأطراف.
ربعُ قرنٍ يفي لأسكتَ تلكَ النفس الثرثارة حتى بتّ لا أسمعها.
ربع قرنٍ يفي لأن أتقن أساليب العيش، فأقبل على الحياة بنفسٍ راضية بما قُسِم لها.
ربع قرنٍ يفي لأدرك أن الكمال لله عز وجل، فلا أنتظر عطاءات كاملة من الآخرين أبداً.
ربع قرن يفي لأجد أن حبّ شيء مقدس يُؤدبنا كلما حاولنا اللحاق به، ويقرع نواقيس حياتنا دون استئذان حين يأذن له ربّ السماء.
ربع قرن يفي لأجيد دور الغربة، فأغتربُ بنفسي حين يضجّ بي صوت وجودهم.

ربع قرنٍ يفي لأقول: اليوم أنت بأتمّ عافيتك، اغتنم خمسك، وارضِ بها ربك، وابتسم في وجه من تقابل دائماً، وتذكر أنك لن تلبث في مقرك كثيراً، فأنت في عداد الموتى لا محالة بما ستؤول له في المستقبل، فلا تتكبر ولا تتشتت لما خلقت له، واقبض على تفردك، واجعل كل من يلتقيك يدعو لوالديك، فتكسب براً مضافاً.. فأنت في أمَس الحاجة إليه.

ربع قرنٍ يفي لأقول: لن تجد لذة الحياة إلا بالعطاء، أعطِ من وقتك، من مالك، من روحك، من كل شيء تملكه.. فقط جربّها وأخبرني.

ربعُ قرنٍ يفي لأقول: أعذر كل من تقابل، التمس له أعذاراً لا متناهية، انظر بعين الشفقة دائماً، لا يهم ماضيه وحاضره، بل مدّ له يد عونٍ لتجعل مستقبله يدعو لك، فتبذر بذرة لا بدّ أن تثمر فيكون لك فيها أثر.

وفي الختام أقول: شكراً لجميع من دخل إلى حياتي، وشكراً لكل من خرج من حياتي أيضاً، شكراً لعائلتي التي تفانت حتى كبرت، شكراً لشقيقاتي اللواتي يرسمن الضحكة والجنون على محياي دائماً، شكراً لصديقاتي وأصدقائي الذين تركوا بصمة لا تمحى من صفحات شخصيتي فلا أبرح أذكرهم في كل صلاة ودعاء، شكراً لمعلميّ ومعلماتي، لأساتذتي وأستاذاتي، شكراً لكل من علمني حرفاً فلا أنكفئ أكتب حتى يعود لهم جزاء ما عملوا، شكراً لكل من تابعني ومدح، أو راقبني ونقد، فشكراً لكم جميعاً لنحتكم ما أنا عليه الآن، فالفضل موصولٌ برب العالمين ثم بكم.

وأخيراً، لا يسعني إلا أن أذكره ببضع كلمات لا تفيه حقه، كلمات أيمم بها من دخل حياتي فأنارها بشعاع نقائه، وطيبة قلبه، وصفاء روحه فشطر قلبي، ومسّ حبة الفؤاد، أصدقك القول إني مهما كتبت فلغتي ترتبكُ في حضرة فكرتك.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد