يمتد خط التاريخ كخطٍ مستقيمٍ، تتفرع من استقامته اعوجاجات كثيرة، وتبرز إضاءات عدة، تشكل خطوطه هذه وإضاءاته انفصالات وأحداثاً لا يمكن تجاهلها، أو عدم الوقوف عندها، وتختص الوقفات الكبرى للتاريخ بأحداثٍ شكلت انحرافاً في المسار المستقيم الأصل لهذا التاريخ.
ومن الوقفات الكبرى التي وقف عندها سيد الخلق ودرته محمد عليه الصلاة والسلام، هو يوم نجاة سيدنا موسى -عليه السلام- من فرعون وزبانيته، يوم لم يرضَ -عليه الصلاة والسلام- أن يمر كيومٍ عادي، فكان الصيام هو الحركة الباعثة للاحتفاء حمداً وفرحاً، وبهذه بدت سنة الوقوف تأملاً وتعبداً بأحداثٍ كان مجراها ليس عادياً أو اعتيادياً في مسار التاريخ الأصل، ومنها سُنة الاحتفاء الأكبر والإمعان المتفقة في الدرس، وحفظ تفاصيل ثقله على إحداثيات التاريخ البشري.
وبإسقاط الفكرة وإمعان النظر في الخط الأنور لسيرة سيد الخلق، سوف نوقن أن الومضات المضاءة في ركن سيرته، تعدَّى كل المتوقع والكائن من تخميناتنا، فالومضة لازمة في كل حركةٍ وسكنةٍ هو أخذ بها، وسيد هذه الومضات والإضاءات، هو يوم مولده ويوم هجرته على السواء؛ حيث شكل الأول يوم ولادة فعلياً معروف الصفة والمعنى لا تأويل به، وشكل الثاني يوم ولادة كبرى، تعدى ولادةً الفرد إلى ولادة الأمة والدولة والتاريخ القادم بأكمله.
في الولادة الأولى اتجهت خطوط التاريخ إلى عمق اللحظة، التي شكلت لحظة الولادة؛ ليكون جثو التاريخ هنا جثو طائعٍ للإرادة الإلهية موافقٍ لها، نحو علوٍ ومسيرٍ لا بد منه في عمق الخط المستقيم له؛ ليكون بعدها ومع كل خطةٍ يخطوها -عليه السلام- بناء قويماً للتاريخ وتشكيلاً محورياً لما بعده؛ ليخطو ببطء وعنايةٍ إلهيةٍ فائقةٍ نحو اليوم الثاني الذي شكَّل انطلاقاً منتظراً للتاريخ وقيامته بعد جثوه الأول،
وبهذا يكون يوم المولد يوماً أصيلاً في عمق التاريخ، منه تنبثق كل الأيام والأحداث العميقة في فعل الرسول وسيرته العطرة؛ لتعود خطوط التاريخ كلها، التي اجتمعت في لحظة الولادة الأولى؛ لتتهيأ للانطلاق الأكبر في بعثها نحو مدارك القادم من الأيام، فشكل هذا اليوم يوم التحول الأكبر في التاريخ، ويوم الوعي والدرس الأعظم في البناء البنيوي لأي مجتمعٍ وأي أمةٍ، ومعجزة هذا اليوم لم تكن فقط في لحظته أو في صفته التي شكّلت انطلاق الخط الأصل للتاريخ في اتجاهاتٍ عدةٍ وفي بناءات عظيمةٍ، فالإعجاز دائم ديمومي إلى يومنا هذا،
فقد التصقت صفة الهجرة بأمة نبيها، التصاق الرحمة والعودة إلى الأصل مع كل حركة وسكنة ونفس؛ لتغدو الهجرة سُنة يتناقلها عظام الأمة وحتى عامتها -في حياتهم- وتكون دار الهجرة هي دار البناء الأقوم لنفس المؤمن وتوجهاتها وصقلها، وخطاً أقوم لتزكيتها، وما نراه من هجرةٍ على امتداد التاريخ ليس إلا بناءً أصغر وهجرة صغرى منسوخة من الهجرة الكبرى لسيد الخلق محمد عليه الصلاة والسلام.
لهذا فبين المولد وبين الهجرة حكاية لا بد لنا من أن نتشرب فقهها ووعيها، ولا بد من أن نلبس مفاهيم اليومين وخطوطهما العريضة، ونتخذ منهما نقاط انطلاق حثيثة نحو التغيير والإبداع في البناء والولادة في عمق التاريخ وخطه الأصل.
صلوا عليه وسلموه كثيرا ** وأفيضوا من غيث هديه مديحاً
وارتووا، فارتواء التائهين من نوره هدى ** والوصل في ذكره يهيج الشوق لهيبا
هو خير الأنام، وخير الخلق أجمعهم ** هو خير خلق الله، خيراً فيه قيلا
وهو خير من وطئت خطاه الثرى ** ورحمة من الله هو الهادي نبيّا
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.