وكيف لي أن أنسى؟
لقد كنا زهاء مائتين، رجالاً ونساء وأطفالاً، مترين طولاً ومترين عرضاً كانت زنزانتي، عشرون رجلاً كانوا معي، نختنق، تمر الساعات بطيئة، ظهورنا إلى الحائط، السلاسل تكبِّل رقابنا والأقدام، الجنة هي ذلك الموعد اليومي الذي تفك فيه هذه الأغلال لدقائق، نساق فيها كالبهائم خارج الزنزانة لقضاء حاجتنا.
في اليوم الأول لوصولنا، قاموا بوزن كل منا، من يزن أقل من ستين كيلوغراماً كان يحشر في زنزانة منفصلة، وعلى مدى الأسابيع التالية يتم تسمينه باستخدام نظام غذائي خاص، يرتكز على البقول، وتحديداً نوع من الفاصولياء بها الكثير من الدقيق، يطلق عليه السنغاليون "نيابي"، وكانوا يضيفون إليه زيت النخيل.
الزنزانة التي في مواجهتي كانت مخصصة للفتيات الصغيرات، بعد أن تم فصلهن عن النساء؛ لأنهن أغلى سعراً، لم أحتمل المشهد وهم "يعاينون البضاعة" بدقة، أما هناك أسفل السلم فزنزانة مخصصة للذين يتمردون على ذلك كله، زنزانة ليست بها نوافذ، على بابها حراس ليس بوسعهم حصر عدد مساجينهم، بل لا يتمكنون أحياناً من إغلاق الباب خلفهم لكثرة عددهم، صدقوني كنا أقل شأناً من الحيوانات، حتى إن وباء الطاعون الذي أصيبت به البلاد بدأ من هنا، ذلك كان عام تسعة وسبعين من القرن الثامن عشر.
استمر المرشد يحكي لي، يسرد على لسان الضحايا بعضاً من القصص المنقولة عنهم، وكثيراً من الألم، فسعر الرجل مثلاً يتوقف على وزنه وعضلاته، والذين اصطادوه يربحون برميلاً من خمر الروم أو المياه أو بندقية، أما المرأة فهي تباع أرخص سعراً بأربع مرات، أما أنا فقد تسمَّرت قدماي في المكان من هول ما أسمع من جوزيف أندياي الذي واصل مهمته التي يؤديها عادة مع السياح ليشرح لي معالم الدار؛ حيث يحبس العبيد الذين يتم جلبهم من إفريقيا، ريثما تأتي السفن لتحملهم إلى أميركا، كان ذلك كما يقول يستغرق أحياناً شهوراً طويلة.
هل يمكن أن يجتمع القبح والجمال في مكان واحد؟ "جوري" جزيرة جميلة في السنغال، تختبئ في أقصى الغرب الإفريقي، توالى عليها الاحتلال الإنكليزي والفرنسي والهولندي والبرتغالي، اعتبرها منتهكو حقوق البشر أنها أنسب نقطة لتزويد السفن المتجهة إلى الأميركتين بالإمدادات اللازمة، فبوسع تلك السفن أن ترسو مهما كانت ظروف الطقس سيئة، ولذلك تحولت جوري إلى مركز رئيسي لتصدير العبيد، وهذا هو القبح بعينه.
صدقاً كنت أشعر بأرواح الضحايا تحوم في هذه الزنازين الضيقة المظلمة، كنت أتخيل لحظة من الزمان تجري فيها كل أشكال التعذيب والاغتصاب في حق أبرياء انتزعوا انتزاعاً من أملاكهم وأراضيهم وأوطانهم، شرح لي المرشد أن الناس تعارفت حينها على تسمية مثل هذه الأماكن بدار العبيد، وأن البرتغاليين هم أول من سن هذه السنة وبنوا هذه الدور، كان ذلك عام ستة وثلاثين من القرن السادس عشر، فهم أول من وصل هنا من الأوروبيين، لكن هذه الدار التي أنا بها تحديداً، يقول المرشد، بناها الهولنديون عام سبعة وستين من القرن الثامن عشر، ويعد آخر بيت للعبيد في جوري.
أشار المرشد إلى ممر يؤدي إلى منفذ على البحر، وقال: هنا كانت تنتهي إفريقيا بالنسبة للعبيد ليبدأوا رحلة بلا عودة، لوح من خشب النخيل يسير عليه العبد يؤدي به إلى مركب صغير، يقله إلى مركب شراعي قد رسا أبعد بقليل بسبب وجود الصخور، وفي ساعة الرحيل كان البعض يحاول الفرار بالقفز إلى الماء، هؤلاء لم يكونوا يذهبون بعيداً، فإما أن يقتلهم الحراس وإما تلتهمهم أسماك القرش، تلك التي سكنت الشاطئ بعد أن اطمأنت إلى حصولها على وجبات يومية من جثث الموتى من العبيد.
العنف هو سيد الحال، منذ لحظة القبض على الحر، إلى نقله من وسط القارة إلى الساحل، إلى سجنه في دار العبيد، إلى الباخرة التي يبقى بها شهوراً في المحيط، إلى أن يُسخَّر في المزارع لإنتاج القطن والتبغ وقصب السكر، إلى أن يموت.
ثلاثة قرون من حياة البشر شهدت هذا النوع من تجارة العبيد، يقدر أنه تم خلالها ترحيل نحو عشرين مليون إنسان من جوري وحدها إلى أميركا، فيما مات نحو ستة ملايين بسبب الجوع والعطش وسوء المعاملة، وكما يقول جوزيف، لو استطعنا أن نرصد الجثث التي تملأ أعماق البحر لرأينا جسراً من العظام من إفريقيا إلى أميركا.
من زنزانة إلى أخرى أتنقل مع جوزيف، يحاول أن يستحضر من ذاكرته أحداثاً هامة، قال: إن الرئيس مانديلا زارنا، وعندما وصل إلى هنا وأمام هذا الباب الصغير انزلق إلى داخل الزنزانة وخرج منها وعيناه شديدتا الاحمرار، ربما تذكر ماضيه في سجون جنوب إفريقيا، وزارنا أيضاً البابا في فبراير / شباط من عام اثنين وتسعين من القرن الماضي، وعلى الرغم من أن بعض العبيد كانوا يتمتعون بامتياز بعد اعتناقهم المسيحية، فإنه من هذا الباب طلب البابا الغفران من إفريقيا؛ لأن كثيراً من الإرساليات الكاثوليكية كانت ضالعة في تجارة العبيد.
عند البوابة المؤدية للبحر واصل جوزيف، بمجرد وصول العبد إلى المركب كانوا يضطرونه لنزع ملابسه، ثم يحلقون له شعره من على كامل جسده، يستوي في ذلك الرجل والمرأة والطفل؛ لتفادي الإصابة بالقمل لغياب المياه الحلوة للاغتسال، رحلة طويلة وبطيئة، تستمر أحياناً ثلاثة أشهر، يحرم العبد الإنسان فيها اسمه ويصبح رقماً، ويعاني خلالها كل صنوف الألم والمهانة.
كان الزمان نهاية صيف ألفين وخمسة، وأنا أغادر المكان، أستقل السفينة التي ستعود بي إلى العاصمة السنغالية دكار، قالوا لي: أسرِع فهذه آخر سفينة وإلا قضيت ليلتك في أحد فنادق الجزيرة، قلت بيني وبين نفسي: شتان بين سجن وسجن.
نسمات مغربية خفيفة تلاطفك كأن هناك من سرته الزيارة، سألت نفسي: هل تهنأ الأرواح قليلاً عندما تجد من ينتصر لها؟
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.