عودة إلى البدايات، إلى بداية الحيرة، حين قال محيي الدين بن عربي ما نصه: "الهدى أن يهتدي الإنسان إلى الحيرة، فيعلم أن الأمر حيرة، والحيرة قلق وحركة، والحركة حياة فلا سكون، ووجود فلا عدم"، من هنا كان الوجود، ومن هنا بدأ الفؤاد يتذوق طعم الفهم، هذا الإنسان الذي حمل لقب الشيخ الأكبر، هو صاحب الرمز المنقسم لمعانٍ خاصة، بخاصة الخلق، لا يدركها إلا من نال عبقاً من رذاذ النور الأبدي.
إن فِكر ابن عربي مختلف في مساره، فهو لا يشبه الخط المستقيم، أي أنه لا يملك بداية ونهاية، ولا درجاً تصعده درجة تلو أخرى، هذا من علوم العامة، كما يقول، أما هو فعلمه دائرة، لا ضيّر من أينما بدأت ولكنك مهما فعلت لن تستطيع استدراك محيطها، ستقف عند كل نقطة تقابل الزاوية المركزية، ثم عند كل انتظار في المسافة التي تفصل بين كلمة وكلمة، ينكشف لك معنى إن كانت نفسك متهيئة له،
لا يُستحسن أن تراقب الساعات وتقوم بقياس مدة لحظات الانتظار، إنما هي فترات، أي أنّ كل فترة من دائرة هذا الإنسان تحتاج من نفسك فكرة لهضمها وتذوقها، وليس فهمها، فإن حاولت الفهم أسأت الأدب، ولن تفهم، وإن حاولت التبسيط لن تُفلح، وإن حاولت التفسير ستقع في فخ المعنى؛ لأن صاحبنا يقول: إن النفس تذوق من المعاني بقدر ما وهبها ربها من فهم.
تلك الهبة لن تستقيم في قلبك إن لم تكن ممن أصابهم نور الله حين قال: كُن، فكانت شجرة الكون، تلك التي يحدق في تمثالها مَن تذوق من ثمارها المختلفة، ذات الأصل الواحد، وكان من أبسطها وقعاً في الفؤاد، الإرادة وفرعها القدرة، تلك التي لا دليل عليها إلا أنت، كما أن لا دليل على الله سوى الله، من هنا بدأ كل شيء وإليه ينتهي.
هي جوقةٌ متراصفة من حبات مطر، تترنم بصوتها الحافي عن كل شُذوذ، تتداول طلاسمها الساحرات البيض، ثم تصنع من تلك الترانيم شعوذات نقيّة، تستنهض منها الريح بعزة الربيع، وتستكمل دورة الألوان مع كل طرفة ولحن، وكأنما حبة السكر الملساء، صارت كوكباً يتجول بمداره المخالف لجميع القوانين التي تعلمتها، ويتبع تقويماً مزاجياً جميلاً في بعض أزمانه، تلك الجوقة في أغلب فتراتها هزيلة، لولا أنها تستعير كلماتها من كوب قهوتها المتأخرة، حين تستذكر روائح الياسمين طريقها عند كل حبة ترتطم بجدار النفس، وتصنع رنيناً أنيقاً يليق بالزهور،
جوقة الزهد الشديد، حين تمارسه في غير حينه، فافهم؛ لأن فيما بعدها كانت الألوان مفعمة بعقيق الغيب، حتى ثارت ثم تراكبت في طيف مستتر، فانعكست في صورة وسقطت على مرآة الذات، هناك في تلك البرهة تستنهض ما غاب عنك واحتمى خلف الحجاب؛ لعلك تفهم بعضاً من كُنهك، فمن عرف نفسه عرف ربه، ولعلك لا تعرف أن من عَرف الكُنه اغترف من بئر الوحيّ، هنا يقول ابن عربي ما نصه: "رأيته نوراً يكاد يكون أكشف من الذي بين يدي، غير أني لما رأيته زال عني حُكم الخلف، وما رأيت له ظهراً ولا قفا، ولم أفرق في تلك الرؤية بين جهاتي؛ بل كنت مثل كرة لا أعقل لنفسي جهة إلا بالفرض، لا بالوجود، وكان الأمر كما شاهدته مع أنه تقدم لي قبل ذلك كشف الأشياء في عرض حائط قبلتي، وهذا كشف لا يشبه الكشف، فافهم".
أما عن نفسي، فلا أستطيع الجزم حتى الآن ماذا كانت ماهية تجربتي مع ابن عربي، لكني ما زلت أذكره حين قال: واحد يشرب من كأسه المختوم، وواحد يشرب من كأسه المحتوم، وواحد من بينهم محروم!.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.