حوار عند عتبات الوطن

قالت البنت لجدتها وقد أخذ منها تعب الطريق كل مأخذ، فبدأت قواها تخور، ونشاطها على مواصلة السير يفتر حيناً بعد حين: "متى نعود يا جدتي إلى قريتنا الصغيرة، فنستأنف ما كان لنا فيها من حياة حلوة وهادئة، نحرث الأرض ونستظل بأشجار الزيتون، ونبتسم لطيور الصباح، وهي تردد أنغامها العذبة الجميلة التي تضفي على النفس السكينة والطمأنينة؟!".

عربي بوست
تم النشر: 2017/01/26 الساعة 02:50 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/01/26 الساعة 02:50 بتوقيت غرينتش

قالت البنت لجدتها وقد أخذ منها تعب الطريق كل مأخذ، فبدأت قواها تخور، ونشاطها على مواصلة السير يفتر حيناً بعد حين: "متى نعود يا جدتي إلى قريتنا الصغيرة، فنستأنف ما كان لنا فيها من حياة حلوة وهادئة، نحرث الأرض ونستظل بأشجار الزيتون، ونبتسم لطيور الصباح، وهي تردد أنغامها العذبة الجميلة التي تضفي على النفس السكينة والطمأنينة؟!".

أجابتها المرأة المسنة، وهي تصعد زفرة طويلة وتشخَص ببصرها الكليل نحو أفق ليس يدركه مدى، قائلة: "قريباً يا ابنتي، سنعود إلى مرتع أحلامك وصباك الأول، فلا تشغلي بالك بكثرة التفكير، انظري إلى السماء، فهي وحدها القادرة على إغاثتنا بمطر ينزل علينا الرحمة، ارفعي يديك صوبها وابتهلي، فهي تستجيب لدعوات الأطفال الأبرياء مثلك".

خيَّم الصمت عليهما بعض الوقت، ثم عادت البنت تسأل جدتها من جديد وبنبرة يشوب مقاطعها الحزن، الحيرة والاستغراب:
"ولكن يا جدتي.. لماذا تركنا قريتنا؟ أين أبي وأخواي زياد ومحمود، لقد كانوا معنا جميعاً، نتحادث ونتسامر.. نضحك.. كيف صرنا بين عشية وضحاها ننهب الطريق مشياً على الأقدام دونهم؟".

أحست الجدة بحرج السؤال وثقله على قلبها، السؤال الذي كان يحمل في طياته رغبة الطفلة الملحاحة في معرفة كل التفاصيل والإحاطة بكل شيء له صلة وارتباط بالأمس الكالح والحاضر المرير.

بدأت العجوز تحاول جاهدة -وهي في حالة يرثى لها من التمزق النفسي والضياع المعنوي- أن تستجمع قوتها، وتستدعي شجاعتها لتصارح الحفيدة الصغيرة بالحقيقة القاسية، ولكن هل تستطيع الطفلة أن تتحمل تلك الحقيقة؟ هل بإمكانها أن تتجلد وهي تتلقف بملء سمعيها أخباراً تكسوها المأساة وأشباح الشقاء والقهر، القضبان الحديدية في أكثر من مكان، البنادق مصوبة في كل الشوارع وأمام المنازل، السلاسل قيود صماء، الأفواه صامتة، العيون باكية، الكلمات بلا روح، الخيام محروقة، القنابل دمرت كل شيء.

كانت الطفلة الصغيرة سناء نائمة نومة الأطفال الأبرياء الذين يحلمون ليلاً بالصفاء والعرائس الجميلة واللعب، حينما اقتحموا حرمة المنزل، حطموا الباب، وأمعنوا في زرع الرعب والهلع في جنبات البيت البسيط وقلوب ساكنيه، استيقظت الجدة مذعورة، مرتاعة الخاطر، ولسان حالها يردد: اللهم لطفك يا لطيف.

رمقها أحدهم بنظرة نارية، وخاطبها الآخر بنبرة فظة قاسية قائلاً: أين يوجد ابنك أحمد يا هذه؟ أين هما ابناه زياد ومحمود؟
إنهم يحفظون الأسماء حفظهم لآيات الحقد والظلم والخديعة، يترصدون الحركات، يتبايعون السكنات، يحصون على المرء أنفاسه، لهم أعين منبثة هنا وهناك، لا هم لهم سوى تضييق سبل الخناق على الذي يروح ويغدو، صغيراً كان أم كبيراً، كهلاً أو شاباً، تنفس الصعداء والإحساس بالأمان بضاعتان منعدمتان في هذه الأسواق الجحيمية ذات الأجواء المكهربة، بالأمس سرقوا الأرض، عذبوا الفرد، اعتدوا على الشيخ الواهن والمرأة الحامل…
واليوم يجدون في خبث ودهاء وهمجية في عمليات التوسع والاعتداء على الشعوب، فهل يتمكنون في وسط هذا الزحام من قمع إرادة أمة في الحرية والحياة؟ هل يستطيعون أن يسرقوا الإيمان وحب الأرض من القلوب كما سرقوا بالأمس الأرض والآثار؟
لقد مل أهل هذه البلاد الانتظار، وأعياهم الترقب والجري وراء زائف الشعارات وفارغ الخطاب والكلمات، لقد التصق الفكر والوجدان بالواقع، واحتكت المشاعر بالذكريات الأليمة والأوجاع الخفية وأنين الأرواح الحزينة، وزفرة طفلة تبحث عن أمها وسط الحطام، تردد في حسرة وفي تمزق: "ماما.. ماما!"، وأسهمت عملية المخاض العسيرة في إنجاب إنسان جديد مركب من إرادة الفولاذ وصبر الجبل، تجري في شرايينه دماء التضحية والفداء، وتلوح على محياه علامات الصمود والتحدي.
وقبل أن تزدرد الجدة ريقها وتتمكن من الإجابة، قال أحدهم لصاحبه: "لا تشغل بالك.. فهم هناك في الغرفة المجاورة"، ساقوهم بثلاثتهم إلى مخفر شرطة الاحتلال، عقدت الصدمة لسان الجدة، فانحبست الكلمات في فمها وكست محياها الشاحب الكآبة والجمود، لقد ذهبوا بهم إلى حيث لا تدري، دون تبيان الأسباب وتوضيح الدواعي، تقطعت الأسباب وانهار الجدار، ازداد جرح المأساة في الذات والوجدان عمقاً واتساعاً.

قالت الجدة للحفيدة المتسائلة:
"لا تقلقي يا بنية.. سوف نلتقي بأبيك وأخويك قريباً، لن تدوم غيبتهم طويلاً".
لم تكن واثقة تمام الوثوق من أن هذه الحيلة على سذاجتها ستنطلي على الصغيرة فتسارع عكساً إلى تحديقها وحمل دلالتها على محمل الحقيقة، إنها طفلة متوقدة الذكاء.
لاذت الحفيدة بالصمت، وقد خيّمت على وجهها ظلال قاتمة من الحزن وسالت دمعة على خدها الصغير.
من بعيد، كان صوت انفجار قوي مصحوب بطلقات رصاص متفرقة يتنامى ويتناهى إلى سمع الجدة البائسة.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد