كثيراً ما كنا نسمع من أهل التربية والسلوك عن رعونات النفس وأهوائها التي قد تعصف بمن هم في مركز المسؤولية وصنع القرار، وتقودهم أحياناً إلى ما لا تُحمد عقباه.
إنها -ببساطة كما يُقال- تؤثر سلباً على التفكير فتجعله غير متزن بفعل سكرات النرجسية والعواطف والانفعالات المتأججة أو الأنا المتضخمة؛ لذلك من الطبيعي أن نرى في الواقع كثيراً من القياديين الناجحين وكبار الموظفين ممن تمرسوا على صناعة القرار من قد أعلن الطلاق بالثلاث بين عواطفه وعقله؛ كي يتمكن من إنتاج قرارات جيدة مهنية بعيداً عن خطر المؤثرات العاطفية.
لكن.. هل حقاً الأهواء وحدها فقط هي التي تؤثر على أحكام العقل وجودة قراراته؟ أم أن هناك أشياء أخرى؟
هل يمكن للذاكرة أو الخبرات السابقة -مثلاً- أن تفعل فعلاً سلبياً مؤثراً في عقل صانع القرار؟!
الخبرة -باختصار- ذاكرة تراكمية نخزن فيها تجاربنا السابقة للاستفادة منها في المستقبل، ولجعل الأشياء لاحقاً تبدو أسهل، إنها أيضاً مهارات مكتسبة مارسناها مراراً وتكراراً حتى وصلنا فيها إلى مرحلة "الطلاقة" أو كما يسميها البعض مرحلة "عدم الوعي بالقدرة"، وهذا مفيد جداً في حالة المهارات السلوكية للموظفين، واللاعبين، والجنود، والطلاب.. إلخ، هو جيد في مساحة العمليات الروتينية في المؤسسات؛ لأنه يؤثر إيجاباً على الإنتاجية، لكنه قد لا ينطبق بالضرورة على المهارات العقلية لصناع القرار؛ حيث التخطيط وبناء الاستراتيجيات والتنبؤ بالمستقبل وتقييم المواقف بموضوعية… إلخ، بل قد يكون تهديداً خطيراً؛ لأنه وبكل بساطة يقولب طريقة استخدامهم للعقل، ويضع محددات لإدراكهم، وهنا المطبّ!
إن التكرار المستمر في أي ممارسة لفترة من الزمن يؤدي إلى البرمجة التلقائية، لكنه في ذات الوقت يشكل في عقولنا ما يسمى بالبارادايم أو المنظور المحدد للتفكير، والمأخذ هنا أن صاحبه يشكل عقله وفق ذلك المنظور المحدد أو البرمجة ويجعلها متكأً له لتسهيل صنع القرارات في المستقبل، فهو يستخدم أداة العقل -وهو لا يشعر- وفق ذلك المنظور "فقط"، فهو كمن يشترك في باقة إخبارية من القنوات، لكنه لا يتابع إلا قناة واحدة.
أين المشكلة؟!
المشكلة أن الذاكرة -كما يقول المفكر د. عبد الكريم بكار- تسعى للحفاظ على مكنوناتها وحمايتها من التفكير النقدي، وبالتالي فالخبرات السابقة تصبح – على علّاتها – بشكل أو بآخر محصَّنة تحصيناً محكماً من النقد والتمحيص والمراجعة، وبالتالي من التطوير والتحسين.. أفكار مقولبة متمترسة، وصاحبها أسير من أسرى البارادايم!
في ربقة هذا الأسر يحدث الالتباس -مثلاً- في عقل صانع القرار بين ما هو خطأ على الحقيقة، وبين ما هو صحيح، لكنه غير مألوف أو خارج نطاق خبراته السابقة!
ومما يزيد الطين بلّة أن كثيراً من الخبرات السابقة قد تكون نجاحات فعلية تحققت في الماضي، فيصر القائد على أن ما نجح في الماضي سوف ينجح حتماً في المستقبل وعنده من الشواهد ما يعزز قوله طبعاً!
وكم من قائد رفض حلاً مذهلاً، لا لشيء إلا لأنه لا يدخل في وعيه السابق!
وكم من قيادة رفضت مراجعات مصيرية لا لشيء إلا لأنها تخالف ما اعتادت عليه!
وكم من موظف مبدع تم إقصاؤه أو فصله لا لشيء إلا لأنه طرح ما لم يسبق لمديره التعامل معه!
وكم من مدير كابر وعاند وأصر على رأيه لا لشيء إلا لأنه يستند إلى خبرة سابقة، فقاد المؤسسة إلى حتفها!
لنا أن نتخيل أن هناك معركة عقول تنافسية بين مؤسستين، الحسم فيها للإبداع أو التصميم أو للاستراتيجيات المركبة، وقيادة الأولى تلعب في السوق مقيدة بقيود البارادايم، والثانية حرة طليقة من كل قيد، فما هي السيناريوهات المتوقعة؟
أبسط ما يُقال -للأسف- أن القيادة في هذه المعركة قد أصبحت عبئاً على تلك المؤسسة وموظفيها!
نعم إنه البارادايم؛ الخطر الكامن في عقولنا وفي عمق خبراتنا.
هو واقع وطبيعة بشرية ليس أحد منا معصوماً عنها، ولكن الاغترار بالخبرة وحدها قد يكون مقتلاً إذا تحكم البارادايم بالقرار وقلل خيارات المؤسسات في معركة البقاء.
ما هو الحل إذاً؟
قد يكون في التدريب المستمر على مهارات التفكير وأدوات صنع القرار -مثلاً- لرفع قدرة القادة على التعامل مع عقولهم ورفع كفاءته لتجنب آفاتها، وكنت أتمنى على المدربين ومراكز التدريب والمهتمين إنتاج برامج خاصة للقيادات المؤسسية تحت اسم "إدارة البارادايم" مثلاً.
وقد يكون في نظم الديمقراطية أو الشورى -إن كانت ملزمة في المجالس الإدارية- حل ما أو عصمة لصناع القرار وتحسين لجودة قراراتهم، خاصة في المستويات الإدارية العليا ومن قد تحدد قراراتهم مصير المؤسسات.
بعض المنظمات الذكية طورت منهجية لضمان صنع قرار جيد من أسفل إلى أعلى، فلا يتخذ القرار في المستويات العليا قبل التمهيد له وجمع المعلومات والآراء والأفكار اللازمة من أسفل الهرم صعوداً برؤساء الأقسام في المستويات المتوسطة فالإدارات فمجلس الإدارة، عوضاً عن إسقاط "قرارات مسبقة الصنع" عليهم بالباراشوت!
وختاماً.. فأياً كانت منهجية صنع القرارات، علينا أن نتذكر دائماً أن البارادايم هيكل للتفكير جامد له تأثيره عند صنع القرارات شئناً أم أبينا، فإن كان خاطئاً فالقرارات كذلك، ومن الصعب تحييد تأثيره ما لم تكن القيادة مدركة لفكرته وأثره على عملية صنع القرار، إنه -باختصار- كالنظارة الملونة على العينين ترينا الواقع بلون مختلف.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.