هل أنت مريض أم زبون؟.. هكذا درسناها في كلية الطب

وكل هذا يدل على أنه كلما زاد التطور في المجال الصحي تراجع مستوى حضارتنا وإنسانيتنا أكثر وأكثر، ولكن بعيداً عن كل الأسباب المنتجة لهذه الشريحة، فإن الطبيب -ومن وجهة نظري الخاصة- عليه واجب واحد تجاه القَسَم الذي أقسم به، وهو إعطاء الجميع مستوى واحداً من العلاج أياً كان مقدار المال الذي يملكه المريض.

عربي بوست
تم النشر: 2017/01/14 الساعة 03:50 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/01/14 الساعة 03:50 بتوقيت غرينتش

مشكلة تواجه الطب بشكل عام في هذه الفترة، هي اختلاف الأطباء وفلاسفة الطب وحقوقييه، الشخصية القادمة إلى عيادة الطبيب مريض أم زبون؟ وكيفية وجوب التعامل مع هذا الشخص القادم إلى عيادة المريض، هل نعامله على مقدار ما يمتلك من مال أم ما يمتلك من وجع؟

في بداية دراستي للطب في السنة الأولى تحديداً، كان مقرراً علينا مادة تسمى الفلسفة الطبية، تناقش نظريات الفلسفة تجاه الطب والطبيب والمريض وعلاقتهما بعضهما ببعض، وكانت إحدى النظريات التي تم نقاشها في المحاضرة، كون القادم للعيادة مريضاً أم زبوناً، في ذلك اليوم كان هناك رأيان؛ الأول أنه زبون، والثاني أنه مريض.

أصحاب الرأي الأول كانوا شديدي الإصرار على أن المريض يعامل بمقدار ما لديه من مال، فإن كان صاحب مقدرة فإنه يستطيع تأمين أكثر أنواع العلاج حداثة وتقدماً وصلاحية.

وأصحاب الرأي الآخر كانوا شديدي الاعتقاد أن الطب هو حق عام للكل، وأياً كانت حالة المريض المادية، فإنه يجب أن يتعامل معه بأكبر قدر من الأهمية.

كل هذا النقاش يكشف النقاب عن مشكلة حقيقية في المنظومة الأخلاقية والمهنية للأطباء من وجهة نظري الخاصة، تنشئة الجيل الحالي من الأطباء على مبدأ المستشفيات الخاصة، التي تملك من التقنيات ما لا تملكه المستشفيات الحكومية أو الخيرية، وتملك الأولى من الاعتناء ما لا تملكه الثانية، فقد أوصل للطبيب الذي كان يوماً مريضاً إلى مبدأ خطير حول ماهيته كمريض، وأنه كيس من المال أو حساب بنكي متنقل، وكل هذا بالإضافة لمعاملة بعض الأطباء والمستشفيات له على هذا النحو، أكد الموضوع داخله، مما دفع الطلبة عندما يتحولون لأطباء لحالة من الطمع المستمر، فضلاً عن هذا وذاك نظرة المجتمع للطبيب على أنه صاحب مكانة عالية، ليس بسبب سمو مهنته وإنسانيتها، بل بسبب مقدار المال الذي يودع بحسابه البنكي مطلع كل شهر.

زاد طمع البعض في الحصول على مكانة أعلى تعتمد على عدد الأصفار في حسابه لا على عدد الحالات التي في رصيده الطبي، قال لي يوماً طبيب إنساني بحت:
عامل مريضك على أنه معلمك الأول، فأنت من تستفيد منه أكثر مما يستفيد هو منك، مشيراً إلى الخبرة التي ستحصل عليها من هذا المريض أياً كان مستواه المادي والمعنوي.

عندما يتجرد الطبيب من حسه المعنوي والإنساني فإنه يعزل نفسه عن المريض بمقدار من الأصفار.

بعيداً عن المستوى العلمي أو الاجتماعي، وبعيداً عن منظومة الصحة الفاسدة في العالم أجمع، فإن منظومة التعليم تحمل وزراً كبيراً بتحول المريض من كومة أوجاع إلى رزمة دولارات، تعمل كثير من المدارس الطبية حول العالم على عزل الطالب عن المجتمع الحقيقي، فيتحول الطبيب من باحث إلى دودة كتب لا تفقه شيئاً عن الحياة الاجتماعية والقضايا الإنسانية والسياسية حول العالم والتي تؤثر بشكل كبير على المنظومة الصحية للفرد والمجتمع، وبمعنى أصح أنها تؤثر بشكل مباشر على مصدر رزق الطبيب ولقمة عيشه.

منظومة التعليم الصحية الحالية أشبه ما يكون بمنظمة عسكرية أو شبه عسكرية تميل إلى كبح الفردية الشخصية وتغير الملامح النفسية للطالب، فنحصل على نسخ مكررة من بعضها البعض، وبهذا فقد الطب ميزته التي كانت موجودة في بداية تأسيس العلم، وهي البحث والاستكشاف والابتكار والبحث خارج المألوف لتفسير كل ما هو غير طبيعي والتفكير خارج الصندوق، ولكن كحال كل منظمة عسكرية أو شبه عسكرية، فإنه يوجد بعض الشخصيات الثورية التي تثور رمزياً على المنظومة العسكرية، وهؤلاء من ينتج عنهم الأطباء الناشطون في مجال حقوق الإنسان أو العاملون في الأنشطة الإنسانية والمشاريع الخيرية، ولكن حتى هؤلاء فهم بحاجة لدعم حكومي وهنا يظهر الفساد السياسي في المجال الصحي، فإن هؤلاء عادة ما تتم محاربتهم سياسياً بشكل أو بآخر لإخفائهم، وذلك لأنهم من وجهة نظر الساسة الفاسدين ما هم إلا مجموعة من المشاغبين الذين يعبثون بما لا يجوز لهم العبث فيه، وكل هذا الفساد السياسي والصحي والتعليمي والاجتماعي يكون شريحة واسعة من الأطباء الذين يعاملون المريض على أنه رقم في البنك أو بضعة أصفار ستضاف للحساب البنكي الخاص بهم، وعلى مقدار المستوى المادي، فإن هذا المريض يستحق العلاج.

وكل هذا يدل على أنه كلما زاد التطور في المجال الصحي تراجع مستوى حضارتنا وإنسانيتنا أكثر وأكثر، ولكن بعيداً عن كل الأسباب المنتجة لهذه الشريحة، فإن الطبيب -ومن وجهة نظري الخاصة- عليه واجب واحد تجاه القَسَم الذي أقسم به، وهو إعطاء الجميع مستوى واحداً من العلاج أياً كان مقدار المال الذي يملكه المريض.

فنحن بعيداً عن كل شيء مطالبون أولاً وأخيراً بتنفيذ الواجب وإحقاق القَسَم الذي نقسمه عند تخرجنا، نحن نقسم على أن نسمو بإنسانيتنا ونعلو بأخلاقنا، وعلى أن نعامل الجميع بتساوٍ تحت وطأة الألم.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد