إن الخيال هو الباعث الأول على الاكتشاف، وهو المحفز الأكثر رومانسية لأصحاب الأفكار العظيمة، الخيال الذي لا تحتويه الدوائر مهما كانت مُتسعة المحيط، ولا يأبه للقوانين الطبيعية أو القيود الدينية، من خلاله تستطيع استحضار أي صورة أو فكرة تتمنى أن تصنعها أو تقابلها في الواقع، انطلاقاً من ذلك، دعونا نخوض هذه التجربة الخيالية للحظات.
أظن أننا متفقون على أن إبليس مخلوق واعٍ، ويملك الإرادة والقدرة على التفكير، فماذا لو قرر إبليس أن يؤلف كتاباً؟ يصوغ فيه بطريقة احترافية أفكاره ويُبين للبشرية من خلاله وجهة نظره، نعم هو كمية شائكة من الشرور، لكن لا أظن أن هذا قد يمنعه من تأليف كتاب إن قرر ذلك، وكأيّ كاتب سيتواصل مع إحدى دور النشر المهمة في العالم ويعرض عليهم كتابه، غالباً سيحصل على عروض مميزة، وخصوصاً أنه لا يبحث عن الشهرة أو المال، فكائن مثل إبليس يتمتع بشهرة تاريخية قد لا تنتهي طالما هنالك إنسان على هذا الكوكب.
من المؤكد أن حدثاً كهذا لن يمر دون أن يترك أثراً ما في نفوس الناس من كل الأطياف، فمن الممكن حينها أن يتسابق المؤمنون على جميع الوسائل الإعلامية، المرئية والمسموعة والمكتوبة والمواقع الإلكترونية وغيرها؛ ليقولوا للبشرية جمعاء، بصوت واحد، بأن الكتاب المنشور تحت اسم المؤلف إبليس، رغم كل الشر الذي يحتويه، فإنه دليل ثابت وقاطع ولا نقاش فيه على وجود الله، ثم إنه بعد ذلك لن يستطيع أحد مهما أتى ببراهين وحجج وفلسفات أن ينكر وجود الله، إنه نصر ساحق لجميع المؤمنين على وجه الأرض، الأحياء منهم والأموات.
ثم إنه بالتأكيد سيظهر العديد من الناس، وخصوصاً من الملحدين وغير الدينيين، ويشككون بصدقية الكتاب، وصدقية دار النشر التي عملت على طبعه، وادعت أن المدعو إبليس تواصل معها بطريقة ما، وطلب منها نشر كتابه المشؤوم، ولعلّ إبليس المعروف بدهائه، ولكي يقطع شكوك الجميع، سيتواصل مع دار نشر مشهورة بتبنيها أفكار غير الدينيين من الملحدين والفلاسفة والمفكرين، ومن جهة أخرى أغلب الظن فإن إبليس لا يعتبر الملحدين من أصدقائه؛ لأنهم لا يؤمنون بوجوده، بل يمارسون نوعاً من السخرية على أولئك الذين يقرون بوجوده؛ لذلك سيحاول بجهد وذكاء منقطع النظير قطع الطريق عليهم من بدايته، ربما من خلال فكرة الكتاب نفسه، يعبر عنها بطريقة تجزم بأنه إبليس.
كم هي صاخبة وكثيرة عدد الأصوات التي سنسمعها من رجال الدين، على اختلاف أديانهم، التي ستُنكر على أتباع دينها قراءة الكتاب واقتناءه، حتى وإن اعتبرته من أقوى الأدلة على الإطلاق التي تثبت وجود الله، هذا لن يقلل من عزيمتهم على محاربة فكرة انتشار الكتاب، لكن من جهة أخرى، ما هو القانون الذي قد يمنع أي شخص من اقتناء أي كتاب بدافع الفضول على الأقل؟ وأيضاً ألا يُعتبر هذا ضعفاً من البشرية وعدم إيمان بقدرة العقل البشري على الصمود أمام كتاب من مخلوق ماجن؟
رغم ذلك، هذا كله لن يمنع المهتمين والفضوليين من قراءة الكتاب، وهذه الجزئية حصلت سابقاً مع تشارلز داروين عندما نشر كتابه "أصل الأنواع"، فكان جواب رجال الدين حينها: "إن داروين يحاول نزع الإله عن عرشه"، ولكن هذا لم يمنع من انتشار أفكار داروين وبقوة.
ومن الوارد أنّ نخبة من رجال الدين والمفكرين والفلاسفة سيقومون بقراءة الكتابة، بهدف الرد على أفكاره الشريرة الخاطئة، ولكن ماذا حينها لو آمن بعض منهم واقتنعوا بوجهة نظر إبليس، الذي قد يكون دعمها بالأدلة المناسبة والقوية فهو معروف بدهائه ومكره، على الأقل هكذا تصفه الأديان التي تعترف بوجوده، فمن الطبيعي أن يحتوي كتابه على أفكار قوية ومقنعة بطريقة ما، قد تكون خادعة نعم، وقد يخدع بها أهم العقول وأكثر القلوب إيماناً، ولكن أليست هذه مهمته التي ينجح بها في أحيان كثيرة ومن غير كتب؟
بالإضافة لذلك، ولأن العالم اليوم يعيش في ظل قوانين كثيرة تضمن حرية التعبير عن الرأي، فإن طمس رأي إبليس وقمعه سوف يُعتبر مخالفاً للقانون، فهو كغيره من المخلوقات العاقلة يحق له أن يعبر عن رأيه بالوسائل السلمية المتاحة على أقل تقدير، بالإضافة لذلك نحن سمعنا وجهة نظر الأديان فيه، وما المانع من قراءة وجهة نظر إبليس؟ هذا لن يضر صدقية الأديان.
بعد ذلك ربما قد نسمع بعض الأشخاص يعلنون إيمانهم وقناعتهم بوجهة نظر إبليس، وقد تكون نظرية جديدة مثل الشيوعية أو الرأسمالية وربما قد تحتوي على وجهة نظر سياسية واقتصادية وغيرها، ثم قد يتعدى الأمر مسألة الأشخاص إلى جماعات ينتظمون في جمعيات وربما أحزاب سياسية تملك رؤية مختلفة عن المتعارف عليه، وتبدأ بالتسويق لأفكارها عن طريق الإعلام الخاص بها، والذي حُكماً سيكون مرافقاً لها ويعمل على تسويق هذه الأفكار الجديدة، فإن منعت الدول انتشار هذه الأفكار تكون قد عارضت قوانينها التي تنص على الاعتراف بالحرية الشخصية، والتي تتفرع عنها حرية المعتقد، الذي يسمح لك باعتقاد ما تشاء من أفكار.
ثم فيما بعد، ولنقُل بعد سنوات، ماذا سيمنع في ظل وجود كمية جيدة من الدول الديمقراطية في العالم، أن يصل أحد معتنقي أفكار إبليس المارقة أو أحد الأحزاب المنبثقة عن فِكره، لسُدة الحكم، أو لمركز القرار، ألا يمكننا القول حينها إنّ من يحكم الدولة الفلانية ذو خلفية إبليسية، وكأنّ إبليس يدير شؤونها بشكل غير مباشر، ثم ماذا لو كانت تلك الدولة من الدول المؤثرة أو المتحكم بالقرارات الدولية؟ هل نستطيع القول إن إبليس أصبح يتدخل في شؤوننا بشكل ما، وكأننا عبدّنا له طريق الوصول لذلك؟
ما أريد أن أقوله من خلال هذا الخيال عن إبليس، إن القوانين البشرية الموجودة حالياً تفسح مجالاً واسعاً لكي يصل لسدة الحكم أشخاص يحملون أفكاراً على أقل تقدير توصف بالسيئة بالرغم من أنها تتخطى مفهوم الشر في عقولنا عند مناسبات مأساوية عديدة، وإن الإعلام اليوم يمارس نوعاً من الدجل والتمويه لصالح أفكار خبيثة، هذه القوانين الموجودة لا تراعي بشكل حقيقي القيّم والأخلاق الإنسانية، وإنها بسبب ثغراتها -التي لا أستطيع نقدها بأسلوب قانوني لذلك لجأت للخيال- ينفذ للسلطة مجرمون بلباس رسمي مع ربطة عنق أنيقة، يحرقون الأخضر واليابس والبشر والحجر في هذا الكوكب.
هذا العالم بشكله الحالي مناسب جداً لتكاثر الأشرار وأصحاب الآراء والأفكار المؤذية، وكثيرون منّا لا يرغب بها ولا بهم، ولكننا نصطدم بالقانون الذي يفسح لهم مجالات قد تكون أحياناً واسعة لمتابعة أنشطتهم وتجنيد أشخاص جُدد يومياً يؤمنون بتلك الأفكار الشريرة، فهل بِتنا نحتاج لقوانين جديدة تحد من انتشار هؤلاء؟
وأخيراً، دعوني أخبركم بأني حقاً متشوق لكي يحكم العالم أشخاص يؤمنون فعلاً وبشكل مُعلن بالشر، هل يا ترى سيصلون بنا لتلك الكمية الهائلة من الدمار التي نعيشها ويعيشها العالم اليوم؟ أم أنهم سيكونون أكثر تعقلاً من الحاليين؟
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.