تحت شمس الصعيد وسُمرة نيله المنعكسة على بشرة أفراده، كان يسكن بيتاً ملوناً بروح الحياة في قرية صغيرة بأسوان، مُغلقة على سكانها القلائل الذين يحفظون ملامح بعضهم البعض عن ظهر قلب، لقلة عددهم، والألفة التي صارت تربط بينهم.
هنا يُقيم "عم يونس"، تجده في يوم عادي جداً من أيامه، يقف في مكان "أكل عيشه" المليء بصخب التجار والسياح والزبائن، ابتسامته تعتلي سُمرة وجهه، وصوته الجهوري يملأ آذان كل من في السوق من حوله، يتحدث مع هذا ويضحك مع ذاك ولا يشغل باله بأكثر من تمضية يوم سعيد كبقية أيامه، فبينما يكاد كل بائع يقف أمام محل جاره ليخطف من أمامه الزبائن، كان "عم يونس" لا يُردد سوى "الرزق على الله يا إخواننا"، تعقبها بسمة راضية، كان مُختلفاً منشغلاً بأمور أخرى، وقد كان الجميع يعرف عنه اختلافه.
فهو رجل صاحب عالمٍ خاص جداً، صاحب بال مرتاح وقلب راضٍ إلى أبعد الحدود، يحب الحياة بكل ما فيها من صخب وحركة وسرعة، يعشق كل ما فيها من ألوان وأصوات ومعالم، خاصة حينما يتعلق الأمر بأسوان أو الصعيد بشكل عام، فهو لا يشعر بالانتماء إلا لذلك المكان، ولم ولن يفكر في مغادرته أبداً، وكيف له أن يغادر عالمه وروحه التي تسكن فيه، والتي ستأبى أن ترحل معه إذا انتوى الرحيل؟ فكان إذا حدَّثه أحد عن فكرة الاغتراب والسعي وراء لقمة العيش، لم يسمع في أذنيه سوى صوت محمد منير، وهو يقول: "قلبي ضايع من يلاقيه لي باينلي نسيته حدا أهلي.."، بلهجته الصعيدية القوية في أغنيته "يونس".
ولذلك كان "عم يونس" قد تعهد لنفسه أنه لن يفعل ذلك بقلبه أبداً وما الذي يدفعه للرحيل؟ فقد كان مقتنعاً جداً أن كل ما نقوم به -نحن البشر- من أفعال وتصرفات ما هو إلا سعي وراء السعادة، وهو قد وجد ما هو أكثر من السعادة، وجد الرضا والحرية ووجد عالمه الخاص جداً الذي يغوص في أعماقه كلما طلعت شمس أسوان، وكلما اندفع صوت أغانيه التي يهوى التمايل والتناغم معها، فكلما تدفقت على أسماعه ألحان صعيدية الطابع أو أغنية من أغنيات محمد منير في السوق التي يقضي بها أغلب يومه أو في أي مكان آخر هو فيه، تجده يغني ويرقص ويتمايل بلا أي حساب لبشر ولا أشياء ولا تقاليد، ولا أي قوى كونية تستطيع أن تمنعه من تلك السعادة التي يخلقها لنفسه كلما أتيحت له الفرصة، فتراه فجأة مبتسماً ابتسامة تكشف عن أسنانه البيضاء التي تتناقض مع بشرته، وتنتشر معالم السعادة على كل ملامح وجهه السمراء المصرية.. ثم تسمعه يُغني كأنه واقف على مسرح أمام جمهور عريض جاء فقط ليسمعه ويرى حركاته وحكاياته وتمايله مع ألحانه ومع حياته البسيطة، إنما هو نفسه فكان حين يدخل عالم الألحان لا يشعر بجمهور ولا بالناس ولا بطبيعة الكون من حوله، يشعر فقط أن هذا الفضاء الواسع خُلق لأجله، ولأجله هو فقط، وكأن الكرة الأرضية لا تحمل شخصاً سواه، فيتملكه شعور بالغ بالتسامح والرضا تجاه كل ما فعلته به دُنياه وكأنه خُلق فقط ليسعد ويعيش.
يتجمهر حوله التجار والزبائن ليشهدوا حالة النشوة التي تتمكن من عم يونس تمكناً تاماً حين يريد أن يبتعد قليلاً بقلبه وعقله وحواسه عن العالم الواقعي الذي نعيشه، والذي لا يمنحه تلك الحالة المفرطة من السعادة والرضا التي يمنحها له عالمه هو.
يحسدونه أحياناً ويسخرون منه أحياناً أخرى، لكنهم في كل حال كانوا في أعماقهم يتمنون أن يصلوا ولو لنصف تلك السعادة التي تملأ قلبه، والتي تفيض من روحه على كل من هم حوله، والجميل في الأمر أنه لم يشعر أبداً بالخجل أو الإحراج من التفاعل مع الألحان والأغنيات، لم يكن يعطي الحياة أكثر من حجمها الحقيقي الذي كان في نظره بسيطاً للغاية غير مستحق للتعقيد والتكلّف.
فما المُحرج في أن يُغني ويرقص ويَسعَد تلك السعادة البسيطة؟! فقد كان عم يونس مقتنعاً أن واحداً من أكبر إنجازاتنا كبشر أن نعرف جيداً الطريق لسعادتنا حتى ولو كان هذا الطريق بسيطاً لا تعقيد فيه.
وكان يرى أن من يُقرن السعادة بكل ما هو مُعقد وضخم اعتقاداً منه أن لا قيمة لتلك الأشياء البسيطة التي تدخل حياتنا أو ندخل عالمها، فهو مُخطئ ومُفتقد للكثير من المتعة والكثير من "روح الحياة".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.