لم يتصوَّر كريم حبيب أبداً أنَّه سينضم إلى ملايين اللاجئين الفارِّين من بلاده، لكنه تلقَّى في يوم الإثنين، 9 يناير/كانون الثاني، مكالمةً كان يخشاها منذ مدةٍ طويلة.
أبلغه صديقٌ له في الجيش السوري بأنَّه سيُستدعى قريباً للخدمة العسكرية، التي كان يعتقد العامل البالغ من العُمر 48 عاماً أنَّه كان قد تجاوزها منذ زمنٍ طويل؛ فقرَّر أن يَحْزِم حقائبه، ويتَّجه صوب الحدود، وفقاً لتقرير صحيفة "التليغراف" البريطانية.
ويقول حبيب من منزل أحد أقاربه في العاصمة اللبنانية بيروت: "لم أعتقد أنَّهم سيأتون من أجلي. لكنَّهم الآن يُجنِّدون رجالاً أكثر من أي وقتٍ مضى خلال الحرب".
وأردف: "النظام يائسٌ للغاية، إنَّهم يلاحقون كل من يستطيع حمل السلاح. يُفتَرَض أن يكون الحد الأقصى للعُمر 42 عاماً، لكن الآن حتى أولئك الذين بلغوا الخمسينات ولديهم مشكلات صحية عليهم أن يقاتلوا".
وقال: "يتم توزيعهم على جميع أرجاء البلاد، فيلتحقون بنقاط التفتيش في حلب، وحتى في الخطوط الأمامية حول دمشق".
جيش متعب
وتلقّى جنود الاحتياط في معقل بشار الأسد في اللاذقية كذلك أوامر، في أواخر الشهر الماضي، ديسمبر/كانون الأول 2016، للحضور فوراً لأداء الخدمة العسكرية ضمن الفيلق الخامس المُكوَّن حديثاً.
وقد يبدو نظام الأسد أقوى من أي وقتٍ مضى، مدعوماً من حلفائه الروس والإيرانيين، وقد يبدو أنَّه منتعش إثر انتصاره في معركة حلب، لكنَّ جيشه المُحاصر يُعاني.
فالقوات التي بلغ قوامها قبل الحرب 300 ألف انخفضت إلى النصف بسبب الوفيات، والانشقاقات، والتهرُّب من الخدمة العسكرية.
وأخبر حبيب، الذي استخدم اسماً مستعاراً لحماية أسرته التي لا تزال في سوريا، صحيفة "التليغراف" أنَّه "لم يَعُد هناك أي رجالٍ بين سن 18-50 في الشوارع بعد الآن". وأضاف: "أولئك الذين يحاولون التهرُّب من الاستدعاء يُسجَنون، ويُعذَّبون، ولذا شعرتُ أنَّه لا خيار أمامي سوى المغادرة".
وكان حبيب يحظى بوظيفةٍ جيدة، إذ كان يعمل كمديرٍ في إحدى شركات النفط في العاصمة، ما جعله عضواً في الطبقة الوسطى التي ستكون سوريا في أمسِّ الحاجة إليها عندما ينتهي الصراع وتحاول البلاد الوقوف على قدميها من جديد.
وفي الوقت الراهن، ينتظر حبيب في بيروت أن تُمنَح زوجته وأطفاله الثلاثة الصغار تأشيراتٍ لألمانيا، حيث يحمل جنسيتها، ويأمل في أن يبدأ حياة جديدة.
لكن كثيرين آخرين في موقف حبيب لم يكن الفرار خياراً متاحاً أمامهم.
فتحت غطاء هجوم النظام على حلب، قُبِض على آلاف المدنيين وجُنِّدوا قسراً.
وأعربت الأمم المتحدة عن قلقها من أنَّ ما يصل إلى ستة آلاف رجل في سن الخدمة العسكرية مفقودون بعد توجُّههم من شرق حلب إلى مناطق تسيطر عليها الحكومة.
نقص في المقاتلين
وقال فيصل عيتاني، الزميل المُقيم في مركز رفيق الحريري للشرق الأوسط التابع للمجلس الأطلسي، لصحيفة "التليغراف" إنَّ "النظام لديه مشكلة خطيرة في القوة البشرية، والتي تم تعويضها حتى الآن بواسطة عشرات الآلاف من المقاتلين الأجانب والميليشيات الموالية، إلى جانب القوة الجوية الروسية، والمستشارين الإيرانيين".
وأضاف: "السؤال المهم هو كيف سيسيطر النظام على الأرض التي يستولي عليها إذا ما سئم المقاتلون الأجانب وقرَّروا المغادرة".
وفي ظل إعلان الروس تقليص تواجدهم العسكري، ومعاناة "حزب الله"، أقوى حلفائه في المعركة، من خسائر كبيرة، يتوجَّب على نظام الأسد الاعتماد على إمكاناته بصورةٍ أكبر.
وبرغم وقف إطلاق النار، الذي تم بوساطة موسكو وأنقرة، واصلت قوات النظام هجماتها على مناطق استراتيجية، وهي في حاجة إلى قواتٍ لمساعدتها في استعادة هذه المناطق.
ويحرص النظام على استعادة المناطق في ضواحي دمشق، العاصمة ومركز السلطة في سوريا. وتُعَد منطقة وادي بردى ذات أهمية قصوى للنظام، لأنَّ الوادي هو المصدر الرئيسي للمياه لنحو خمسة ملايين شخص.
وكانت القوات الحكومية في الأيام الأخيرة تَدُك المنطقة المحاصرة بالغارات الجوية والقصف المدفعي من الأرض.
وقال عيتاني إنَّ "دمشق وضواحيها المحيطة تتصدَّر قائمة الأهداف التي يرغب الأسد في تحقيقها بمجرد أن يسيطر عليها، سيُوجِّه اهتمامه نحو السيطرة على جيوب المعارضة في حمص، وحماه، وإدلب".
وتُعَد محافظة إدلب، التي يسيطر عليها تحالفٌ تعُمّه الفوضى من مجموعات المعارضة، أكبر معاقل المعارضة الآن.
وكانت الحكومة تستخدمها كخزَّانٍ، مُرسِلَةً إليها مقاتلي المعارضة من شرق حلب، وغيرها من المناطق التي استسلمت في إطار ما يُسمَّى باتفاقات المصالحة.
استمرار المعارك
وقال علي حيدر، وزير الدولة لشؤون المصالحة الوطنية، الأسبوع الماضي، أنَّه كان يتوقَّع مزيداً من الاتفاقات في الأشهر المقبلة لإرسال آلافٍ من المقاتلين إلى إدلب قادمين من مناطق قريبة من دمشق وجنوبها، وذلك مع تقدُّم الجيش.
لكنَّه قال إنَّ الدولة لا يمكنها السماح بأن تبقى إدلب في يد المعارضة لأجلٍ غير مسمى. وقال إنَّه ما لم يكن هناك اتفاقٌ دولي يُعالج الوضع، "فإنَّ الخيار الآخر سيكون الذهاب إلى معركةٍ مفتوحة معهم".
وتعهَّد الأسد باستعادة السيطرة على البلاد بأكملها، لكن يبدو على الأرجح أنَّه تعهُّدٌ لا يمكنه الوفاء به.
وتبدو القوى المتعارضة التي تتولَّى الوساطة في محادثات السلام (روسيا، وتركيا، وإيران) الشهر المقبل في كازاخستان مستعدّة لتقسيم سوريا إلى مناطق نفوذٍ مختلفة.
وسيحتفظ الأسد بحلب، وهي مدينة مهمة لإيران لوقوعها على طريق الإمدادات من إيران إلى "حزب الله" في لبنان، فضلاً عن المناطق الساحلية التي يملك الروس قواعد بحرية بها.
ومع ذلك، فإن من المؤكد أنَّ الأسد سيفقد السيطرة على أجزاء كبيرة من شمال سوريا، حيث تتمركز القوات التركية في مسعىً لإقامة "منطقة عازلة" على طول الحدود.
المسألة الكردية أيضاً ما تزال قائمة؛ فليس من الواضح ما إذا كان سيسمح لأكراد سوريا بتشكيل دولة فيدرالية خاصة بهم كما حدث في شمال العراق، أو ما إذا كان سيتم استبعادهم من الصفقة تماماً.
أما بالنسبة لمستقبل الأسد، يبدو من المرجح الآن بشكل متزايد أنَّه سيبقى في السلطة حتى الانتخابات الرئاسية المقبلة. وحينها يمكن استبداله بمرشح آخر من طائفته العلوية.
قد يمضي وقت طويل قبل أن يتمكَّن حبيب من العودة.
ويقول حبيب: "كل ما أعرفه هو أنني لا أستطيع أن أخدم في جيش هذا النظام الوحشي الذي دمَّر البلاد. لن يكون هناك سلام تحت حكم الأسد. ومعظم الذين فرَّوا لن يعودوا حتى يرحل".
– هذا الموضوع مترجم عن صحيفة The Telegraph البريطانية. للاطلاع على المادة الأصلية، اضغط هنا.