"كن مجنوناً، فالمجانين سعداء" – مقولة مشهورة.
الجنون اسم مصدره جن، وهو بمفهومه ومعناه السطحي زوال العقل أو فساد فيه، أي: العجز عن السيطرة على العقل، ويترتب على ذلك سلوكيات شاذة يقوم بها المجنون، شاذة بمفهوم العرف الإنساني، أو لتكن "مفهوم الإنسان الطبيعي"، يقوم بها دون وعي وإدراك وقد يؤدي للإضرار بنفسه أو بالآخرين، بانتهاك أي من المعايير الاجتماعية، وعبر التجارب والزمان كان للجنون أنواع غير الجنون المطبق، كجنون الفنون مثلاً، ويوصف به الذي يربط بين أشياء لا رابط بينها، وهوس الشباب ورعونته يسمى بجنون الصبا، أما جنون الارتياب فهو عدم الثقة غير المبرر فيه، وللعظمة أيضاً جنون يسمى بـ"جنون العظمة"، وهو عندما يصاب المرء بخلل عقلي يشعره بعظمة وقوة غير عادية، وبذلك يرسم وقائع خيالية للهروب من الواقع، وكثر مَن هم مصابون بهذا الجنون، ونراهم بشكل شبه يومي، تعددت أوجه الجنون.
في السطور القادمة سنلقي الضوء على الجانب المضيء من "الجنون"؛ لنرسم تعريفاً آخر له.
محمد وعيسى وموسى -عليهم السلام- وغيرهم من سادة البشر المصطفاة اتهموا بالسحر والجنون، تمثل جنونهم "كما ادَّعى مخالفوهم" بتكسير أصنام الجهل ودحر ظلام الشرك بنور الوحدانية، ورسم نمط روحاني جديد للتعايش، غيَّر بذلك مسار البشرية أجمع، هناك علماء وأطباء ومفكرون وصموا بالجنون، بل حتى الفطاحل منهم، علماء العرب والمسلمين الذين كان لهم أثر إنساني على الصعيد الفكري والطبي والهندسي والأدبي وغيرها من العلوم، اتهموا بالجنون والزندقة، ابن رشد والفارابي والجاحظ وغيرهم، ويليام هارفي ارتأى أن دم الإنسان يضخ بالقلب للأوردة الدموية، فحاكمه المجتمع بتهمة الجنون، السير نيوتن رغم عبقريته رآه بعض المؤرخين مجنوناً، ومن الصعب الجلوس معه فترة طويلة، الجنون جعلهم يبتعدون عن جمود الواقع، وخالفوا بالجنون كل ما هو سائد في المجتمع، وصنعوا بذلك التاريخ، تشربوا حرية الفكر وحرية الجرأة على كل مثبط، فارتقوا لسر الوجود، عباس بن فرناس!! قفز من أعلى طائراً فسقط جثةً وما زالت روحه طائرة، رسم ملحمة عن الإنسان والطيران، لكنه سمي ب "أسطورة المجنون الطائر".
إذاً لِمَ الجنون؟ إذاً في المقابل سيكون نزال حاد بين المجنون وأقرانه، وذويه، بينه وبين جلافة مجتمعه، لِمَ الجنون؟ الإنسان السوي المفعم بالحياة المحارب لإثبات الوجود الساعي للتنوير كيفما كان وأينما صار، يجعل نصب عينيه هدفاً ومعنى سامياً يحيا من أجله، الإنسان السوي يكون في حياته صاحب رسالة، صاحب قضية، صاحب هدف، ويموت ويحيا لتحقيقه، فابن فرناس ما زال يطير، ولذلك الهدف والرجاء السامي يوجب الجنون على المرء الطامح، الجانب المضيء من الجنون!
لتكسر الواقع ولترسم في باطن عقلك الإيمان والقدرة لقهر أي مستحيل، لتحارب قيود الوهم التي تهد من حيلك، وتكسر عزيمتك، الجنون لترسم خطوطاً فوق إطار الواقع الخانق، لترسم بخيالك وطموحك عالماً تفرضه على الواقع لا العكس، تحتاج رشفةً من كوب الجنون؛ لتخرق الجمود وتنطلق وأنت مفعم بالحياة.
كيف الجنون؟ على المرء أو الشاب المتعطش لرشفة من كأس الجنون ألا يجعل أكبر همّه هو فتات مال يأنس به آخر الشهر، ولا سيارة يسير بها حوائج يومه الروتيني، ولا زواجاً مبنياً على رغبة غامضة وهمه بذلك لحاق القطار ورسم "حياة وردية" معتادة ومكررة، أو باسم "زوجوه/ها يعقل"، أي ألا يجعل حقوقه العامة كإنسان طبيعي هي حلمه وآخر حدود طموحه، ألا يخلق بالروتين الموروث المكرر جيلاً بعد جيل صراطاً لحياته، فأين الجديد في ذلك؟ بل أين الحياة في ذلك؟
"الجنون هو أن تفعل ما اعتدت أن تفعله وتتوقع نتائج مختلفة" ألبرت أينشتاين، وإذا أخذنا تعريفه بمحمل الجد، لوجدنا أن معظمنا بطبيعة الحال مصابون بالجنون بجانبه البائس، فكيف تنتظر صنع أي جديد وأنت تمضي على نفس الرتم؟ وعكس ذلك أن تكون مجنوناً لتحيا لتكسر حدة الواقع لتطير بآمالك؛ لتعرف ماذا ستكون قبل أن تكون؛ لتتخذ قرارات مصيرية يعاتبك عليها الجميع فيصفقون لك لاحقاً.
"قِف على ناصية الحلم وقاتل" محمود درويش، بحق وبكل انطلاقة كن مجنوناً.
إذاً فتعريف الجنون هو: قهر الحياة بالحياة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.