العثور على الأرامل والاطلاع على أحوالهن المأساوية، لم يكن بالأمر الصعب داخل مخيمات النازحين المنتشرة على تخوم مدينة الموصل، شمالي العراق.
وبين خيمة وأخرى هناك قصة تفطر القلب وتبكي العين، كانت مدينة الموصل مسرحاً لها أثناء عمليات تحرير المدينة التي انطلقت في 17 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، ولا تزال متواصلة، بينما علق مئات آلاف المدنيين وسط جحيم الطائرات والمدافع.
حديث من وراء ستار
"أم عذراء"، شابة لم تكمل عامها الثاني والعشرين، فقدت زوجها خالد محمد، منتصف شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي بنيران قناص لتنظيم "داعش".
رفضت في بداية الأمر التحدث عن قصتها، لكنها اقتنعت في النهاية بالحديث من وراء ستار خيمتها في مخيم "حسن شامي"، شرقي الموصل.
أجهشت "أم عذراء" بالبكاء قبل أن تسرد قصة فقدانها لزوجها بالقول "خرج من منزلنا في حي عدن شرقي الموصل حاملاً معه براميل من أجل تعبئتها بالمياه من البئر، بعد انقطاعها عن الحي لأسابيع، ولم تمضِ سوى 10 دقائق، حتى تحول أبو عذراء إلى جثة على قارعة الطريق، بعد أن أصابته رصاصة قناص في رأسه".
وتابعت: "خرجت إلى الشارع لم أصدق مشهده والدماء أخفت ملامح وجهه، وانتابتني موجة صراخ هزت الشارع، وبكى على وقعها كل من سمعها، فقدت بعدها الوعي، ولم أعد إلى الواقع إلا في اليوم التالي".
بعد مقتل زوجها لم تجد "أم عذراء" أمامها مخرجاً سوى النزوح، لأنها ليست قادرة على إعالة طفلتيها الصغيرتين، وللخلاص من مسلحي تنظيم "داعش" الذي يعمدون إلى تزويج الأرامل لعناصره بالإكراه.
وعلى بعد أقل من 10 أمتار عن خيمة "أم عذراء" تقطن "رنا"، في خيمة أخرى، جاءت بنفسها لتروي قصتها.
وتقول إنها تزوجت من ابن عمها أنمار، قبل بدء معركة الموصل بأيام معدودة ليقيما معاً في حي القدس، شرقي الموصل، ومع احتدام المعارك داخل المدينة قرر زوجها إرسالها إلى بيت عائلتها في حي شقق الخضراء (شرقاً)، كي يصفي بعض أعماله ويلحق بها ومن ثم يغادران المدينة معاً.
لكن "رنا" تلقت بعد يومين من فراق زوجها نبأ مقتله وجميع أفراد أسرته، المكونة من 6 أشخاص، جراء قصف جوي لطيران التحالف الدولي استهدف صهريجاً مفخخاً لتنظيم "داعش" كان قرب منزلهم.
وتقول بحرقة "ما يجعلني أتحمل ألم فراق زوجي أن في أحشائي طفلاً ينمو منه، وأنا بانتظاره لأرى فيه ملامحه من جديد وأشم عطره".
وتضيف أنها ستسمي المولود باسم زوجها أنمار ذكراً كان أم أنثى.
وقود لنار الحرب
غرقت "رنا" بعدها في نوبة بكاء شديدة، وفشلت جميع المحاولات للتخفيف عنها، فراحت تلعن الحرب ومن جاء بداعش إلى الموصل وسهل دخوله ويحاول الآن طرده من المدينة بهذه الطريقة، مشيرة إلى أن المدنيين العزل أصبحوا وقوداً لنار هذه الحرب وفقدوا أعز ما يملكون طيلة عامين ونصف العام.
وعن سبب نزوحها، قالت رنا إنه لم يعد لها في الموصل شيء جميل، وجاء قرار خروجها من المدينة كي لا ترى ما يذكرها بزوجها والأيام الجميلة التي قضتها معه، على حد تعبيرها.
وختمت حديثها بالقول إنها لن تعود إلى المدينة في يوم من الأيام، حتى وإن اضطرت إلى البقاء في العراء طيلة عمرها.
في مخيم "حسن شامي" وحده يوجد 361 امرأة فقدن أزواجهن خلال معركة تحرير الموصل، هذا ما أكده مسؤول العلاقات وتنظيم شؤون النازحين في المخيم عدي يونس الطائي.
وأضاف، في حديث للأناضول، أن أعمار النساء اللاتي فقدن أزواجهن تتراوح ما بين 18 و35 سنة، وهو أمر خطير فازدياد نسبة الأرامل الشابات يضر بشكل كبير ببناء المجتمع ويتسبب بانهياره.
وأشار الطائي إلى وجود أعداد كبيرة من الأرامل في مخيمات النازحين الأخرى المنتشرة في أطراف الموصل، فضلاً عن وجود أخريات داخل المدينة فضلن البقاء في منازلهن.
وأشار إلى أن الفرق الإنسانية داخل مخيمات النزوح "توثق أسماء الأرامل وتقدمها إلى المنظمات الإنسانية لتوفير مساعدات إضافية لهن وإدخالهن في برامج إعادة تأهيل للتخفيف عن معاناتهن ومساعدتهن على تجاوز الظروف الصعبة".
ويؤكد المراقب للشؤون الإنسانية في الحملة العسكرية الجارية لاستعادة الموصل سامر يوسف، أن أغلب نساء الموصل اللاتي يفقدن أزواجهن يقررن الهرب من المدينة لتجنب الوقوع بقبضة التنظيم وإرغامهن على الزواج بالمقاتلين في صفوفه تحت تهديد السلاح.
دورات داعش
ويبين يوسف، أن التنظيم يرسل مجموعة من النساء التابعات له إلى الأرامل لإقناعهن بالزواج من مقاتليه، ومن ترفض يتم القبض عليها واحتجازها بأحد السجون وإخضاعها إلى دورات متعددة، تتمحور دروسها حول أهمية الزواج وخطورة البقاء وحيدات لفترة طويلة.
"خالدة"، أم لثلاثة أطفال أكبرهم سناً يبلغ 9 أعوام، قتل زوجها بطريق الخطأ، بنيران القوات العراقية، نهاية أكتوبر، التقت بها الأناضول في أربيل وأجهشت بالبكاء فور سؤالها عن واقعة مقتل زوجها.
وتحدثت للأناضول، بينما كانت يداها تحت عباءتها السوداء الفضفاضة، عن كيفية مقتل زوجها أمام عينيها وأعين أطفالها عندما كانوا يهمون بالفرار، وسط الاشتباكات داخل حي الزهراء، الذي كانوا يقيمون فيه شرقي المدينة.
وظن الجنود العراقيون أن زوجها أحد انتحاريي "داعش"، وسط الظلام، حين كان يحاول تفقد الطريق أمام عائلته قبل التقدم للفرار من جحيم المعارك فأطلقوا عليه النار وسط عويل الزوجة وصراخ الأطفال.
حاول الجنود إصلاح الموقف بإسعاف الضحية، لكنه فارق الحياة على الفور، ولن يفارق المشهد مخيلة خالدة طالما بقيت على قيد الحياة، حسب تعبيرها.
وتكفل ضابط من تلك القوات بإدخال "خالدة" وأولادها إلى أربيل وإيجاد مسكن لهم، سدد قيمة إيجاره لـ6 أشهر.
وبعد كثير من الجهود بذلتها الأناضول لتأمين اتصال مع إحدى الأرامل، داخل الموصل، تمكنت من التحدث مع امرأة فضلت ذكر الحرفين الأولين من اسمها فقط (ز . م)، خشية ملاحقة التنظيم لها أو لأسرتها.
بدأت الأرملة تستذكر حادثة فقدان زوجها، التي وقعت صباح الأربعاء 17 أغسطس/آب الماضي، عندما اقتحمت مجموعة مسلحة من "داعش" منزلهم في حي النجار، غربي الموصل، واقتادوا زوجها إلى جهة مجهولة.
وبعد يومين من اختطافه جاء 3 مسلحين إلى الدار، وأبلغوا والده بالحضور في اليوم التالي، إلى منطقة باب الطوب وسط الموصل، كي يرى ابنه.
وتشير إلى أن والد زوجها ذهب في صباح اليوم التالي، وبعد قرابة الساعتين عاد، لكنه لم ينطق كلمة واحدة إلا بعد أكثر من ثلاث ساعات ليبلغهم أن التنظيم أعدم ابنه بتهمة "خط شعارات مناهضة للتنظيم" على جدران الأبنية.
وتقول إن أكثر ما يؤلمها يومياً، ولا تقدر على نسيانه، أن مسلحي "داعش" لم يسلموا جثة زوجها وحرموها من زيارة قبره مدى الحياة.
بعدها كانت كلمات الزوجة غير واضحة، بسبب رداءة شبكة الهاتف المحمول، إلا أنها وقبل انقطاع الاتصال تساءلت عن نفسها وعن بقية الأرامل، عن المسؤول عن فقدانهن أزواجهن، وما إذا كانت الأيام ستسد الفجوة في أنفسهن وتحيي من جديد شعورهن بالحياة؟.