اعتبرت صحيفة "الغارديان" البريطانية، أن الربيع العربي بعد ست سنوات من انطلاق شرارته التي أشعلت المنطقة "يمكن تكراره"، مستعرضة الظروف التي اعتبرتها مواتية لحدوث ذلك.
وفيما يلي نص افتتاحية الصحيفة الشهيرة أمس الإثنين 2 يناير/كانون الأول 2017.
صادف هذا الشهر مرور ست سنواتٍ على انطلاق "الربيع العربي"، وهو الاسم الذي يطلق على سلسلة أحداث كان من المُفتَرَض أن تكون نقطة تحولٍ رئيسيةٍ في الشرق الأوسط المعاصر.
كان إضرام بائعٍ تونسيٍ متجوِّلٍ النار في نفسه، ثم موته لاحقاً، في الرابع من يناير/كانون الثاني 2011 هو الشرارة التي أطلقت عاماً ثورياً. بثَّت الاحتجاجات اللاحقة الحماسة في نفوسِ المواطنين العرب العاديين، الذين استردُّوا، على ما يبدو، ثقةً شعبيةً بالنفس كانت قد تلاشت بفعل عقودٍ ستة من الاستبداد.
وقد تشرَّف الشارع العربي بشجاعة شعوبه وعزيمتهم، وألهم الحركات في أرجاء العالم. ولم يعبِّر المتظاهرون عن معاناتهم فقط، بل قيل إنَّهم غيَّروا العالم. لكن السنوات الست القصيرات التي مضت على هذه الأحلام أفضت إلى حالٍ يُرثى له.
ففي مصر، أكثر البلدان العربية سكاناً، أعادت ثورةٌ مضادةٌ الديكتاتورية العسكرية. وأُحيلَت معظم ليبيا واليمن إلى دمار في حربٍ يُعد اللاعبون الرئيسيون فيها هم القوى الخارجية المستعدة للقتال حتى آخر مواطنٍ محلي، فيما تعيش سوريا خراباً كاملاً، تخضِّبها أنهار الدماء.
وكانت الديمقراطية الوحيدة التي نجحت هي تونس، إذ شهدت انتقالاً سلمياً من حكمٍ سلطوي إلى حكومة مُنتَخبة، فحاز الحزب الإسلامي الرئيسي (النهضة) السلطة، وأعلن العام الماضي 2016 أنَّه سيتخلّى عن جميع نشاطاته الدينية والثقافية، كما تعهَّد بالتركيزِ فقط على السياسة، ليصبح بذلك حزباً إسلامياً ديمقراطياً شبيهاً إلى حدٍّ ما بنظرائه من الأحزاب المسيحية في الغرب. لكن في كل كمال نقيصة: فالتونسيون يمثِّلون العدد الأكبر من المقاتلين الأجانب في صفوف تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش).
لم تختف الأسباب العميقة التي أدَّت للثورات، بل أصبحت أكثر تفاقماً، في نواحٍ كثيرةٍ من الظروف المعيشية اليومية، مما كانت عليه في 2011. وتجابه الدول العربية أزمةً في كل الاتجاهات تقريباً: فهبوط أسعار النفط أثَّر سلباً في اقتصاد المملكة العربية السعودية، وتسبَّبت الإدارة الفاشلة في مصر بالأزمة تلو الأزمة، ويرغب الرجال والنساء البائسون المتَّجهون إلى أوروبا في حياةٍ أفضل من تلك التي عاشوها في أوطانهم.
وبحسب تقرير التنمية الإنسانية العربية الصادر عن الأمم المتحدة، وهو الأول منذ اندلاع الربيع العربي، فإن الشرق الأوسط يضم فقط 5% من سكان العالم، لكنَّه مسؤولٌ عن 45% من الإرهاب في العالم، و68% من الوفيات الناجمة عن المعارك فيه، و58% من لاجئيه. وتحذِّر الأمم المتحدة من أنَّ هذا يأتي في وقتٍ يتجاوز فيه تعداد الشباب العربي 100 مليون نسمة، ولا يزال ينمو باطِّرادٍ، لكن معدلات النمو تلك لا تجاري سرعة معدَّلات البطالة، والفقر، والتهميش.
لكن يبدو أنَّ هذا الصعود لجيل الشباب الأكبر عدداً، والأفضل تعليماً، والأكثر تمدُّناً في تاريخ المنطقة، والذي يُعد أيضاً الأكثر تديُّناً بفارقٍ شاسعٍ عن أقرانهم في أي منطقةٍ أخرى من العالم، يمثِّل عاملاً مزعزعاً للاستقرار، فجاء التجاوب معه متمثِّلاً في حملةٍ من القمع، حيث سحق المعارضين، لكن دون التعامل مع الأسباب التي أوجدتهم.
لا عجب إذن من أن تحذِّر الأمم المتحدة من "تراكم المطالب وعودتها بصورةٍ أكثر عنفاً". وتبدو مسبِّبات تفجُّر حلقةٍ جديدةٍ من الاحتجاج جليَّةً. فالعالم العربي يتجه للسلاح لا أدوات الإنتاج، إذ أنفق 75 مليار دولار على التسلُّح سنوياً خلال الـ25 سنةً الماضية، وتحتكر النخب السلطة بالوراثة، وتقوم الأعمال على "الواسطة"، كما تسبَّب الفساد في إهدارِ مواردٍ هائلة.
تقول الأمم المتحدة إنَّ نحو تريليون دولار نُهِبت على مدار نصف قرن، بينما كان من الممكن استثمار تلك الموارد في خلقِ الوظائف وتحسينِ الخدمات الأساسية. ولا بد من التخلي عن نمط التفكير الذي يكبت المعارضين ويفرض عليهم الأوضاع القائمة.
في السياسة تكون الأخطار واضحةً. فإن لم تكن هناك آلياتٌ للمشاركة والمحاسبة تسمح بالاحتجاج السلمي، فإنَّ الناقمين ربما يلجؤون مباشرةً إلى أعمالِ عنف. ويتطلَّب الأمر في العالم العربي نظرةً ثاقبةً إلى الإسلام السياسي.
ويتعامل العالم الإسلامي السُّنّي (مع الآخر) بمزاجٍ متوتِّر. وقد شهدت الجماعة العرقية العربية الأكبر، المتشاركة في تراثٍ ثري، ثقافياً ودينياً ولُغوياً، سقوطَ أعظم مدنها في يد منافسيها: الموصل، وحلب، والقدس، وبغداد، ودمشق.
ومن المنظور الجيوسياسي، كشفت الأحداث الأخيرة كيف أضحى العرب مرةً أخرى بيادق على رقعة الشطرنج. وأُوقف تقديم القرار التاريخي في الأمم المتحدة، الذي يطالب بوقف كل أشكال الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي المحتلة، من قِبَل دولةٍ عربيةٍ. (في إشارة إلى مصر). وفي سوريا، لم تُقدَّم خطة السلام من أي قوةٍ عربيةٍ سُنّيّة، بل قدَّمتها روسيا، وإيران، وتركيا.
وسيؤدي وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض (في 20 يناير/كانون الثاني 2017) في مفاقمة هذا الإحباط العربي. وكان انتقاد تيريزا ماي لوزير الخارجية الأميركي، جون كيري، على خلفية خطابه الذي انتقد فيه إسرائيل خطوةً في هذا الاتجاه. فماي، التي رفضت اتَّباع إدارة أوباما في تجميد صادرات الأسلحة إلى السعودية بعد قصف المدنيين، أكثر اهتماماً بمبيعات السلاح من اهتمامها بنشر الديمقراطية في العالم العربي. وهذا خطأ؛ فأولئك الذين يُمنَعون من إحداث التغيير في مجتمعاتهم بوسائل ديمقراطيةٍ ربما يطلقون عنان غضبهم في الداخل، أو في الخارج.
– هذا الموضوع مترجم عن صحيفة The Guardian البريطانية. للاطلاع على المادة الأصلية، اضغط هنا.