عبثٌ ذلك الذي يحدث في السياسة الإقليمية حول الثورة السورية، لا فرق فيها بين عبث هذا الفريق أو ذلك، فكلهم مهتمون بمكسبٍ آني قليلٍ في مقابلٍ خسارةٍ دائمةٍ كبيرةٍ، وكلهم لا يعبأون بكم من يموت ويجرح ويهجَّر من السوريين، فأفعالهم بل وحتى أقوالهم دمرت سوريا ولا تدخر جهداً للقضاء على إنسانها أيضاً؛ إذ عدو السوريين يقتلهم وصديقهم يدفنهم ويدفن معهم قضيتهم وثورتهم التي ينشدون.
لقد تكبَّدت النظم التقليدية في المنطقة خسائر كثيرة في سبيل مواجهة رياح التغيير التي أتى بها الربيع العربي، لكنها لم تجد بين كل أحداثه كالثورة السورية في التوظيف والاستفادة منها، وهو ما جعل الثورة السورية رهينة قرارات يتم اتخاذها في دوائر بعيدة عن الطفل السوري الذي كتب على أحد أسوار درعا في شهر مارس/آذار 2011: "إجاك الدور يا دكتور".
بعد نشر تلك العبارة بأيام، سألني صديق عن توقعي للوقت الذي سيقضيه الشعب السوري قبل إزاحة بشار الأسد، بعد أن سبقه الشعبان التونسي والمصري في إخراج بن علي ومبارك من السلطة في أقل من عشرين يوماً، فأجبت متوقعاً لا متمنياً: اثنتا عشرة سنة، فلم يوافق على كلامي، وظن أني منفصم عن الواقع الجديد في 2011، فأجبته: ابتُليت الثورتان التونسية والمصرية بالأعداء، لكن الثورة السورية مبتلاة بالأعداء والحلفاء على السواء.
مرت ست سنوات، شهدت خلالها الثورة السورية أشكالاً متعددة من التصعيد، وتشابكاً بين قوى المنطقة والعالم، أراد كل واحدٍ منها على حدة أن يصب تحرك الشعب السوري في أهداف تتقارب وتتباعد بالنسبة له، وأهمها في تقديري:
1- إبقاء النفوذ على المنطقة، بل وحتى مده إلى أجزاء أخرى منها، تحقيقاً للغاية ودون استحياءٍ من الوسيلة، فجاء التطهير العرقي والتهجير القسري لتغيير ديموغرافيتها، بسبب أطماع تاريخية وسياسية.
2- جعل سوريا منطقة لصراعٍ طويلٍ، وهو ما يسهم في إدخال بعض اللاعبين الجدد في معادلة المنطقة، ووراثة التركة الأميركية على نحو مشابه مضموناً لـ"مبدأ آيزنهاور"، ومختلف عنه شكلاً.
3- إيصال سوريا إلى حالة اللاثورة واللانظام، فاللاثورة تصد رياح الربيع العربي، واللانظام تُسقط عدواً تقليدياً، بحيث تلعب الفوضى دوراً في إيصال رسالةٍ داخليةٍ بليغةٍ مفادها: أن أي تحرك شعبي يسعى للحرية سينتهي لما انتهى إليه السوريون.
لكن لماذا كل هذا الاتجاه القاسي والوحشي ضد السوريين تحديداً؟ وما الذي يبرر هذه الممايعة والمماطلة من قبل قوى المنطقة والعالم في تأمين الأبرياء -على الأقل رغم أن تجربة سوريا ليست جديدة لا على عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، ولا عالم ما بعد الحرب الباردة؟
إن السبب -في تصوري- هو أن الشعب السوري نجح في إسقاط نظرية سياسية هامة، عاشت مستقرةً وصحيحةً قروناً وعصوراً في التاريخ البشري، واستحكمت قواها في كثير من الدول في الشرق والغرب، وهي تتعلق بجعل التخويف والخوف لا الشرعية الدستورية ضابطاً للعلاقة بين الحاكم والمحكوم، وهو ما أزعج المستبدين ورعاتهم الديمقراطيين على السواء؛ إذ إنه وبحكم الدرجة العالية من بوليسية الدولة الأسدية في سوريا، كانت هي آخر دولة -ربما وكوريا الشمالية- من المتوقع أن تمر بثورة شعبية تسعى لاقتلاعِ نظامٍ ميكافيللي مستبدٍ مد جذوره وشبك علاقاته في المنطقة لأربعين عاماً، وها هو عصي على السقوط اليوم بعد ست سنواتٍ من عمر الثورة.
من هنا جاء قلق النظام الإقليمي والدولي من تحرك الشعب السوري، ومن كسره كل قيود التخويف التي كبّل بها النظام العقل الجمعي لشعب سوريا وللمراقبين أيضاً منذ مجازر حماة وسجن تدمر والمخابرات، فتحرُّك السوريين قد يقود إلى تحولٍ إقليمي وربما دولي أوسع في بلدان أقل استبداداً يهدف لإسقاط الأصنام السياسية وإرساء الديمقراطية والحرية.
لقد عانت الثورة السورية طوال ست سنوات من وحشية الأعداء وتعشيم الحلفاء، والتعشيم -لمن لم يفهم- هو صناعة آمال زائفة وغير حقيقية وتعليق الآخرين بها؛ حيث تسابق "أصدقاء سوريا" (لا ندري ما هو تعريف سوريا هنا!) على المنابر وأمام آلات التصوير لتهديد بشار الأسد بالرحيل والوعود بالتدخل وتشكيل التحالفات العسكرية والدعم النوعي للثوار، بل وراح بعضهم يتفنن في ذلك التهديد بتخيير بشار الأسد بين الرحيل سياسياً أو عسكرياً، في وقت كانت المناطق التي يسيطر عليها الثوار تُمطَر بالصواريخ والبراميل المتفجرة والغازات الكيماوية، وسكانها بين قتيلٍ وجريحٍ ومهجَّر.
أقدم هذه الأطروحة، وأنا في الحقيقة من أقل المتابعين للثورة السورية والملمّين بأحداثها والقادرين على سرد وقائعها على الأرض؛ لأنني كنت قد قررت الانشغال عنها منذ زمنٍ، وذلك بسبب عجزي الذهني والتحليلي عن مجاراة مؤامرةٍ كهذه يقوم بها الجميع على أبرياء لا ذنب لهم، فكلما مرت بي أحداثها -ولو بالمصادفة- شعرت بالغم واليأس اللذين لا أريد، ولعنت العالم بما فيه، ففي أحداثٍ كالتي تجري في سوريا شطّت العقول، فطارت إلى أقصى اليمين إرهاباً ويأساً من الإصلاح الإنساني أو لأقصى اليسار إلحاداً ويأساً من العدالة السماوية، والعياذ بالله من كلَيهما.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.