ما زالت سُترة مقاتل داعش، ذات القلنسوة السوداء، مُعلقة على الحائط، وبطّانيات نومه تغطي الأرض مُشتبكةً بوسائده وملابسه التي هجرَها في هذا الكهف الخالي، الذي يمتدُّ بعمقٍ يصل تقريباً إلى 50 قدماً (15 متراً) داخل نفق طويل مظلم، يُثير ضيقه رهاب الاحتجاز، أسفل منزل دمَّره صاروخ.
بطول الرواق، يوجد ما يشبه خزان أوكسجين، متصل بمراوح كانت توزِّع الهواء الخارجي إلى الداخل، والأنفاق مُبطَّنة بأسلاك كهربية ومصابيح، بين كل منها متر تقريباً. يوجد الآن إطار فارغ، كان به تلفزيون، معلق على الجدران البيضاء الناعمة، المبنية من نوع من الأخشاب لعزل الغرفة عن الأرض الخالية، وفقاً لتقرير موقع "ذا ديلي بيست" الأميركي.
وتوجد غرفة ثانية على عُمق أمتار قليلة تحت فرع أنفاق آخر، وهي منطقة نوم، تشبه أعشاش الطيور، للمحاربين المختبئين من قنابل الائتلاف العراقي بالأعلى، وذلك بحسب المُرشدين، الذين كانوا جنوداً في السابق.
كانت هذه المنطقة، المُكتظة بالأنفاق والغرف تحت الأرضية، حتى وقت قريب، مخبأً سرياً ومركزَ قيادةٍ لداعش. ويُظهر حجمها وتعقيدها، ناهيك عن كل المنازل المفخخة أعلاها، تحصين جيش الإرهاب بالقُرب من الموصل، عاصمة داعش العراقية.
أخبر أحد المسؤولين الإقليميين موقع "ذا ديلي بيست" بأن داعش متوغلة توغلاً أكبر في الجانب الغربي من الموصل. ووفقاً للمخبرين السريين داخل المدينة، لم تُلغِّم داعش منازل فردية فقط، وإنما جهَّزت أحياءً كاملة للانفجار، بمعدات تفجير متصلة خلال المنازل، مُشكِّلةً أقواساً مميتة.
قنابل الائتلاف العراقي
في الشارع بالخارج، فوق هذا المخبأ، ما زالت الرائحة الكبريتية لقنابل الائتلاف العراقي تكسو الهواء، وتصل إلى حلقك، وهي ما تبقى من الضربات الجوية التي تلَتها معركة ضارية من منزل لآخر في بلدة بعشيقة، التي تبعد عن الموصل 15 ميلاً (24 كيلومتراً)، وهي على بُعد كيلومترات قليلة من الجبهة الحالية.
يوم الأربعاء، اصطحبت قوات البشمركة مراسلة الموقع في جولة، أثناء الهدنة المؤقتة التي أعلنها الجيش العراقي حتى يستعيد الجنود قوَّتهم بعد ضغط استمر 60 يوماً في ضواحي الموصل الشرقية، والقرى المجاورة، مثل بعشيقة. وكان الجنود العراقيون، الذين بدا على ملامحهم الإرهاق، يقودون عربات مُحطمة خلال نقاط التفتيش، التي تحيط الآن بكل الطرق الرئيسة خارج المنطقة.
وفي اليوم التالي، الساعة السادسة صباحاً يوم الخميس بتوقيت العراق، بدأ القتال مُجدداً، وفقاً لوزارة الدفاع العراقية. ونشر وزير الدفاع تصريحاً باللغة العربية على صفحته في فيسبوك يقول: "بدأت قوات الجيش، والشرطة الاتحادية، وقوات مكافحة الإرهاب العراقية، المرحلة الثانية من عملية التحرير الشاملة لضفة الموصل الغربية"، ووقَّع على التصريح الجنرال العراقي عبد الأمير رشيد يار الله.
يرفض الضباط العراقيون حالياً التحدث إلى المراسلين، وذلك بعد أن تلقَّوا انتقادات لاذعة تقول إنَّ المعركة، التي استمرت شهرين، تسير أبطأ من المتوقع، هذا بالإضافة إلى الفريق الأميركي ستيفن تاونسيند، الذي تنبأ يوم الكريسماس بأنَّ إخلاء العاصمتين، الموصل والرقة، من داعش قد يستغرق عاماً، ثم سيتطلب الأمر عاماً آخر لمطاردة قوات داعش في الصحراء الواسعة بالمثلث الواقع بين المدينتين.
3 أشهر فقط
وردَّ رئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي، بغضب هذا الأسبوع، إذ أخبر المراسلين بأنَّ معركة الموصل ستستغرق فقط ثلاثة شهور أخرى، وستنتهي قبل الانتخابات البلدية، المحتمل إجراؤها في أبريل/نيسان. وأكد مسؤولون عراقيون آخرون على تصريحه، قائلين إنَّ المعركة ستنتهي في موعدها المُقرَّر، لكنهم اعترفوا بأنَّ التنبؤات الأولية بنصر خاطف كان سببها رغبة مغرورة في الاستعراض.
وفي لقاء صحفي مع "ذا ديلي بيست"، قال صفاء الشيخ، نائب مستشار الأمن الوطني: "توقع الجميع، الجيش والسياسيون والشعب، توقعات غير واقعية. قريباً، ربما تُحرَّر الجهة اليسرى من الموصل، لكن سيستغرق إخلاء جانب الموصل الغربي شهرين".
وأشاد مقاتلو البشمركة في بعشيقة بقوات العبادي، قائلين إنهم قاتلوا بقوة، وإن التعاون بينهما كان جيداً. وهذه إشادة نادرة، نظراً للانتقادات الدائمة بين السياسيين الذين يقودون كلتا الجبهتين.
لكنهم لا يعرفون كيف يمكن لأي قوة، مهما بلغ مستواها، أن تجتاز ما تنتظره القوات العراقية غربيَّ الموصل.
وقال قائد لواء الجيش البشمركي، بهرام ياسين عارف: "جنود الجيش العراقي خائرو القوى، ولا بديل لهم"، وذلك في مقرّه المؤقت المكوَّن من خيامٍ منصوبة في رواق كبير في بعشيقة، وهو أحد المباني القليلة التي لم تمسَّها الحرب.
المعركة ضارية بكل تفاصيلها التي تشمل القنابل التي تُلقيها داعش، والانتحاريين الذين يرتدون أحزمة ناسفة، والقناصين الذين، وإن كانوا لا يمتازون بالمهارة، يمتازون بكونهم مثابرين.
وقال عارف: "ليسوا جيِّدين ولا دقيقين للغاية، لكنهم مازالوا خطرين"، وهو يحتسي أكواباً من الشاي مليئة بالسُكر، بجوار المدفأة، في هذا الكهف، الخالي من أي شيء سوى كراسي بلاستيكية، وخيام جنوده.
وأضاف: "إذا استمرت المعركة هكذا، فستستغرق وقتاً أطول مما يظنون".
خارج المقر المؤقت، توجد مجموعة من صواريخ داعش محلية الصنع، متعددة المدى، والتي تدل على البراعة والتحضير الطويل.
وأضاف عارف: "لديهم بعض الخبراء الذين كانوا جزءاً من نظام صدام حسين، وبعض الخبراء الغربيين أيضاً".
وحين سألت مراسلة الموقع المقاتلين عما إذا كانوا قد أبطلوا مفعول الذخيرة التي استولوا عليها، أجابوا بالنفي. توجد هنا ذخيرة تكفي لتفجير المبنى بأكمله إلى أشلاء صغيرة، لكنَّ هؤلاء المقاتلين لا يملكون عدداً كافياً من مرقآت وقف النزيف لكي يتحركوا، وليس لديهم فنيِّو المفرقعات الذين كانوا ليخبروهم بأنَّ هذه الأسلحة يجب أن تُحفظ في حفرة عميقة عمقاً آمناً.
بقايا الذخائر تغطي المدينة
يقول عارف إنَّ المدينة بأكملها مغطاة ببقايا ذخائر، وقنابل بدائية الصنع، لم تنفجر بعد، تركها جنود داعش لكي تستمر في القتل والتشويه بعد رحيلهم بوقت طويل. وقتلت هذه الأسلحة عشرات المدنيين العائدين لأماكن مثل الرمادي.
ومع ذلك، تتباهى قوات البشمركة الكردية، التي استولت على تلك المنطقة، بهذه البلدة المختنقة بالدخان، متتبعين، بلا خوف، المنزل المقصوف الذي يؤدي إلى شبكة داعش السرية، رغم مخاطرة أن يكون الإرهابيون قد فخخوا المكان بالمتفجرات.
ويُمثل المنزل، الذي به مدخل النفق، مثالاً كلاسيكياً للكابوس المدني الذي تنتظره القوات العراقية أثناء تقدُّمها. جدران المنازل وما بينها بها فتحات كبيرة بحجم الأبواب، حتى يتمكن مقاتلو داعش من الفرار من منزل لآخر داخل الحي، دون أن تراهم الطائرات الحربية المُحلِّقة فوقهم.
يوجد المزيد من هذه الممرات المتاهية، والمقاتلين المختبئين، في انتظار قوات الجيش العراقي التي يجب أن تستولى على بقية شرقيِّ الموصل، ثم الاستمرار نحو غرب المدينة. وقد استخدم مقاتلو داعش بالفعل ممرات خفية كهذه لمباغتة خطوط الجيش العراقي من ورائها، وقتلوا العشرات منها.
وقال صفاء الشيخ، نائب مستشار الأمن الوطني، إنَّ حكومته تعرف أنَّ أمامها معركة ضارية.
وقال: "عدد مقاتلي داعش داخل الموصل أكبر من عددهم في الأنبار (وهي محافظة كانت تسيطر عليها داعش في السابق)، وذلك لكي يستطيعوا إرهاب الناس". ويتراوح العدد المُقدَّر لمقاتلي داعش، الباقين داخل الموصل، ما بين بضعة آلاف إلى 10 آلاف. وأضاف الشيخ: "ولا يعلم أحد كَم منهم سيقاتلون حتى الموت".
وقال الشيخ إنَّ الحكومة العراقية لا تنتظر مساعدة كبيرة من المدنيين المحاصرين داخل الموصل، وذلك وفقاً لتقارير الاستخبارية التي تلقَّتها من داخل المدينة.
وقال: "حين دخل مقاتلو داعش المدينة، رحَّب بهم عامة المواطنين." لكنَّ حُكم داعش القاسي سرعان ما كدَّر صفو السكان، وحل شعورهم بالإرهاب محل ترحيبهم الأولي. وأضاف الشيخ: "وتدهور الحال حتى صار الناس يُرحبون بالقوات العراقية، لكنهم غير قادرين على الانتفاض ضد داعش".
ويُصدِّق على هذا عدد من الهاربين، في مخيم للنازحين العراقيين، تديره منظمة خيرية كردية.
وقال أحد الذين هربوا من حكم داعش: "لم يقتلونا على الفور. كانت الحياة عادية في البداية". (طلب الهاربون من الموصل عدم ذكر أسمائهم، خشيةَ أن يُعرِّضوا من تركوهم تحت حكم داعش للخطر). وأضاف: "يجب أن نطلق لحانا ونرتدي بناطيل قصيرة". وأشار الرجال حوله إلى بناطيلهم المشابهة. وأكمل: "لكني فوتُّ بعض الصلوات في المسجد.. أول مرة جلدوني 30 جلدة، وثاني مرة جلدوني 50 جلدة".
وسُجن رجل ثانٍ حين اكتشفت داعش أنه كان جندياً عراقياً سابقاً. ودفع عمَّه فدية قدرها 800 دولار لداعش ليخرجوه من السجن، لكن بعد أن ثقبوا رجله بقضيب معدني ساخن.
ووُضع رجل آخر في السجن لأسباب لم يشرحها، لكنه قال إنه هناك قد رأى بعينيه مقاتلي داعش يقطعون رؤوس المساجين بالسيوف ويقطعون أيديهم بالسكاكين.
وحين سُئلوا عما إذا كان الناس الذين تركوهم هناك سيثورون ضد داعش، هزَّ الجميع رؤوسهم بالنفي، وقالوا: "لو تكلموا ضد داعش، ستُقطع رؤوسهم".
وأضاف رجل أنَّ الائتلاف العراقي يقصف مواقع داعش منذ شهرين، لكنَّ داعش ما زالت صامدة. وقال: "الناس بالداخل لا يملكون أسلحة. كيف تنتظرين منهم أن يُحاربوا؟".
هذا الموضوع مترجم عن موقع The Daily Beast الأميركي، للاطلاع على المادة الأصلية اضغط هنا.