هجومٌ إرهابيٌ آخر في أوروبا يوجّه المزيد من أصابع الاتهام الحذرة إلى تونس. هل أخطأنا تماماً في قراءة دولة جنوب المتوسط الصغيرة التي أشعلت تظاهرات الشعب الجريئة فيها من أجل الحرية والعدالة الاجتماعية شرارة الربيع العربي قبل 6 أعوام؟ لغزٌ محيّر بشدة.
هي دولة معروفة عند معظم الغربيين بشواطئ الاستجمام السياحية؛ لكنها أفرزت كذلك مجموعة من الأفراد المرتبطين الآن بسلسلة من الهجمات الإرهابية، بحسب ما ذكر تقرير لصحيفة "التليغراف" البريطانية.
نشأ أنيس عمري، الرجل، الذي قتلته الشرطة الإيطالية الجمعة، والمتهم بتنفيذ هجوم شاحنة اللوري بمدينة برلين، في قرية صغيرة بالقرب من مدينة القيروان، التي تقع على بعد 60 ميلاً جنوبي العاصمة تونس، ثم ركب قارباً مثل آلافٍ من أبناء وطنه إلى جزيرة لامبيدوسا الإيطالية بحثاً عن حياة جديدة.
أمّا محمد لحويج بوهلال، منفّذ هجوم نيس في يوليو/تموز الماضي الذي قتل 86 شخصاً، فقد وُلد في بلدة مساكن التونسية، وانتقل لاحقاً إلى فرنسا. وأحد الرجال المرتبطين بالهجوم على صحيفة "شارلي إيبدو" في باريس، في يناير/كانون الثاني من عام 2015، كان بوبكر الحكيم، مواطنٌ فرنسي من أصل تونسي قضى العديد من الأشهر في تونس قبل 2011، ثم سافر للقتال في سوريا، حيثُ قُتل في قصفٍ جوي أميركي الشهر الماضي.
7000 تونسي في داعش
وقد غادر حوالي 7000 تونسي بلادهم منذ 2011 للقتال إلى جانب الجماعات المتطرفة في العراق وسوريا، خاصة تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش). كما أن عدد التونسيين في صفوف المقاتلين الأجانب في العراق وسوريا يفوق أي جنسية أخرى. كذلك نفذ المتطرفون التونسيون سلسلةً من الهجمات في بلادهم نفسها، وتمرّد على مستويات منخفضة ضد الجيش التونسي بالقرب من الحدود الجزائرية، بالإضافة إلى اغتيالات سياسية وهجمات على السياح الأجانب في متحف باردو الوطني بالعاصمة تونس في مارس/آذار 2015، وعلى شواطئ سوسة في يونيو/حزيران من العام نفسه.
هناك قصتّان عن تونس المعاصرة. إحداهما عن انتقالٍ هشٍ لكن واعد من أعوام الحكم السلطوي إلى الديمقراطية الوليدة. عُقدت الانتخابات البرلمانية مرتين منذ 2011، وعندما خسرت حركة النهضة الإسلامية التصويت الشعبي في المرة الثانية سلّمت السلطة بهدوء، ساعية إلى دورٍ في الحكم عن طريق التحالف مع خصومها. في الأسابيع الأخيرة، استمرت هيئة الحقيقة والكرامة في بثّ رواياتٍ حية من العديد من ضحايا انتهاكاتٍ نفذتها الأنظمة السابقة، في شهادة أسرت البلاد. حكاياتهم صادمة ومبجّلة بالقدر ذاته. هذه حكاية تونس التي نادراً ما نسمع عنها.
القصة الثانية هي عن تعرّض جيل من الشباب والشابّات على مدار العديد من الأعوام للتهميش، وتعرّضه لمحاولات زرع التطرّف، وهي قصة مازال الكثيرون في تونس يقاومون الاعتراف بها.
يلومون حركة الجهاد الدولية المتطرّفة على تسميم عقول هذا الجيل من الشباب. نعت كاتبٌ صحفي تونسي هؤلاء المتطرفين أمس بأنّهم les fils maudits؛ أي الأبناء الملعونين المتسببين في الأذى لبلادهم.
لكن المشاكل تنمو في تونس منذ الألفينات، مع تصاعد البطالة، واليأس، والمذلة في صفوف الشباب. لجأ بعضهم إلى الحركات السلفية المتطرفة، متأثراً بالمواعظ التلفزيونية، ومدفوعاً بالغضب على محاولات النظام التونسي فرض نُسخته من الدين الإسلامي.
وسُجن الكثيرون، فقط ليتحرّروا في 2011 بعد عفوٍ شامل. وسرعان ما استغلوا الفراغ السياسي والأمني الذي جاء مع الربيع العربي لنشر رؤاهم وحشد الدعم الشعبي. بعضهم تلقّى آلافاً من الدولارات عن كل شابٍ تونسي تمكّن من تجنيده للقتال في سوريا والعراق. مجتمعات مثل التضامن في تونس العاصمة وجدت أن مجموعات كاملة من الشباب قد اختفت وذهبت للقتال في الخارج.
وأعطى سقوط نظام بن علي فرصة الهرب من البلاد لآلاف الشباب التونسيين، متجهين إلى أوروبا بحثاً عن حياة أفضل. بالنسبة لبعضهم، يُزرع التطرف فقط بعد قضاء عقوبة في السجون الأوروبية: أنيس عمري قضى 4 أعوام في زنزانة إيطالية قبل انتقاله إلى ألمانيا. قضيته دليلٌ على رابطة شائعة بين الإجرام والتطرّف، غالباً ما يتداخل المجتمعان في تجنيد أعضائهما. ولم تفرض الحكومة التونسية قيوداً على سفر الشباب إلى الخارج إلا مؤخراً.
لكن الأوضاع التي دفعت هؤلاء الشباب إلى الهرب لم تتغير في تونس إلا قليلاً. ما زالت معدلات البطالة مرتفعة. وبخلاف العاصمة تونس والمدن الساحلية الغنية والمنتجعات السياحية، هُناك احتجاجات، وإضرابات، ونزاعات صناعية مستمرة.
تُسجّل بضع مئاتٍ من الأفعال الاحتجاجية الفردية أو الجماعية كل شهر، إلا أنّها نادراً ما يُعترف بها من قبل الإعلام التونسي والنخب الحاكمة. ربّما تبقى احتجاجاتٍ اجتماعية مصغرة، وربما لا تُشكّل ثورة ثانية أبداً، إلا أنها تكشف كمّ العمل الذي مازال ينبغي إنجازه في تونس الجديدة.
هذا الموضوع مترجم عن صحيفة Telegraph البريطانية. للاطلاع على المادة الأصلية اضغط هنا.