عندما شنقت نفسي!

وكطفل صغير فإن أكثر ما شدني هو مشهد ذلك الطفل الذي سقط أمام دبابة الموت تنقذه تلك الأم من موت محقق تحت عجلاتها، مروراً بنهاية الفيلم مع مشهد رِجلي المختار تتأرجحان، يسبقهما تدلي جسده الذي نفخ روحه الطاهرة إلى باريها

عربي بوست
تم النشر: 2016/12/21 الساعة 07:22 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/12/21 الساعة 07:22 بتوقيت غرينتش

هي حادثة كانت في صغري، لم يكن لها وقع كبير في سنوات عمري التي مضت، حتى بدأت السنوات الخمس العجاف الماضية.

كطفل صغير لا يشغله في هذه الحياة سوى متعة اللعب وحب التملك وعناد الباحث عن كل جديد، كانت تلك الليلة التي تَسَمَّرت فيها أمام التلفاز الذي لا يحمل في جعبته سوى ثلاث قنوات أرضية، تعرض إحداها الفيلم الشهير أسد الصحراء عمر المختار.

وكطفل صغير فإن أكثر ما شدني هو مشهد ذلك الطفل الذي سقط أمام دبابة الموت تنقذه تلك الأم من موت محقق تحت عجلاتها، مروراً بنهاية الفيلم مع مشهد رِجلي المختار تتأرجحان، يسبقهما تدلي جسده الذي نفخ روحه الطاهرة إلى باريها، شدني مشهد ذلك الطفل وهو يلتقط نظارة المختار يضعها فوق عينيه في إشارة إلى جيل سيكمل مسيرة النضال من أجل الحرية، نعم شهدت موت البطل وانتهى الفيلم.

مضى يومان لأتسمر مرة أخرى أمام الشاشة أشاهد ذات الفيلم، لكن هذه المرة منذ بدايته.
ما هذا؟! البطل قد عاد؟! الأبطال لا يموتون؟!
ماذا؟! لماذا؟! وكيف؟!
دوامة من الأسئلة لا أجد لها أجوبة سوى أن الشنق لا يقتل الأبطال، هنا توقف كل شيء لديَّ، وما هي إلا لحظات حتى قررت التأكد بنفسي مما حصل، فاعتليت سريري، ولففت حبل ستائري حول عنقي وقفزت قفزة الأبطال الذين لا يموتون، لأغدو معلقاً في الهواء كعمر الذي لم يمُت.
تدلت القدمان فوق كل شيء، وأخذ الوجه زرقته، إلا أن القدر كان له همس معي: أيها البطل لن تموت!
فكما الأم التي احتضنت الفتى من تحت دبابة الموت إلى أمي التي كانت سبباً في أن لا يموت بطلها الصغير.
نعم نجوت في حينها، ولكنني لم آبَه بعدها لما حدث كيف حدث ولِمَ قد حدث.
لكن وبعد عقدين ونصف من الزمن كان لهذه الحادثة وقعها الأشد من حبل التف حول العنق يعجز عن الخنق، إلى واقع باتت فيه الأعناق على مشانق لا تجد أمهات يَكُنَّ بها رحيمات فتُفَك.
فمن مشاهد الأطفال صرعى إلى مشانق الرجال الذين يموتون دون مشهد معاد يعيدهم إلى الحياة.
نعم وبعد خمسة وعشرين عاماً بت أتألم من ذلك الحبل الذي التفَّ حول رقبتي كلما شاهدت في سوريا ما يعجز الرجال عن احتماله.
نعم بت أشعر بحرارة الروح وكأنها تغادر الجسد، وأنا أشاهد في حلب أطفالاً تحت الركام لا ذنب لهم سوى أن هناك من أراد إعادة مشهد العزة ليعود البطل إلى الحياة.

نعم بت أُشنق على رأس كل ساعة يعيد فيها المذيعون ذات الخبر بمشاهد متجددة لموت لم يرحم أي حلبي.

حلب لن تكون النهاية، كما أنها لم تكن البداية، حلب هي حبل التف حول أعناق الصامتين القادرين على الفعل.

حلب نموذج يحاول الطغاة تسويقه على أنه مشهد يمكن له أن يعاد كلما حاول بطله أن يعود.

سامحك الله يا أمي.. لِمَ حللت الحبل عن عنقي؟!

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد