في بلد عُرف بالزّهو والحياة طالت الحرب واشتدّت حتى صار ثقلها يؤلم القلب بدلاً من الكاحل، الشّام والسّلام كانا كلمتين مربوطتين برباط موثوق محكم، شاءت الأقدار ولم يكن على تلك الفتاة الشابّة إلا أن توضب أغراضها متّجهةً هي وعائلتها إلى أقرب نقطة متاحة خارج هذا البلد، خالجها الشعور بالتردد مصاحباً لفزع مرير، فمن عجب أن يأتي يوم كهذا لتشهد فيه على تدمير وطن احتوى كيانها منذ المهد، فهل ستستطيع أن تترك هذا الوطن بكل ما فيه من احتواء وذكرى إلى بلد أجنبي لم يسبق لها أن زارته؟ بلد أجنبي، أي بلد هذا الذّي ستجرّ عليه عجلات حقيبتها تاركة خلفها ركام وطنها متّجهة نحو قضاء مجهول لا علم لها به؟
نقطة هبوط الطائرة بعد إقلاعها من سوريا هي طرابلس الليبية، قصص جديدة، أناس جدد، حياة جديدة تنتظر تلك الشابّة في ليبيا، على الرغم من أن ليبيا ليست بذاك البلد الآمن في الوقت الراهن، فشأنها السياسي والأمني لا يزال مضطرباً، إلا أنها لا تزال أقل دماراً وخراباً من سوريا التي حطّمت بأكملها جرّاء الحرب المشتعلة.
طرابلس الليبية جميلة، هذا ما أخبرتني به الفتاة أثناء حديثنا، كانت تتمشى في شوارعها محاولة أن تتأقلم مع أجوائها، أخبرتني أيضاً أنها تعرّفت على أناس وجيران قمّة في الطيبة والكرم، ومع مرور الأيام أصبحت طرابلس جزءاً لا يتجزأ منها، حتى عند ابتعادها عن طرابلس لمدّة وجيزة كانت تفتقدها أشدّ الافتقاد، ووصفت لي طرابلس وصفاً معبراً قائلة إن طرابلس بالنسبة لها هي "الروح".
تعرّفت على هذه الفتاة في المدرسة؛ حيث كانت تلك السنة هي سنتي الأخيرة في المرحلة الثانوية، عند دخولها للفصل في اليوم الدراسي الأول لها علمت أنها ليست ليبية؛ لأنها بدت لي مختلفة عن سائر الفتيات الليبيات من ناحية الهيئة الخارجيّة، أمّا داخلياً فهي إنسانة خجولة جداً، من الصعب عليها التعامل مع أناس جدد ليست على علم إن كانوا صادقين معها أو منافقين، خصوصاً أن هذه الفتاة لا تفهم اللهجة الليبيّة ولا تتحدّث بها مطلقاً، ولكن في حديثي معها قالت لي إنها تحمد الله وتشكره؛ لأنه أرسل لها مدرّسات لطيفات وصديقات رائعات لم يجعلنها تشعر ولو للحظة بأنها غريبة عن هذا المكان، وما زلت أستطعم طعم أكلة "المجدّرة" و"التبّولة" و"الكبّة" اللذيذ التّي كانت تحضّرها لنا أم صديقتي بيديها.
يبدو من كل ما سبق أن الفتاة تعيش حياة هنيئة في بلدها الجديد، ولكن في الحقيقة لم تكن حياتها تخلو من الصّعوبات والمشكلات التّي تعترض مسارها يومياً وتزعجها، كعنصريّة بعض الليبيين تجاه اللاجئين والنّظر إليهم بنظرة دونيّة فظّة، وكأن اللّاجئ هو لص آتٍ ليسرق خيرات بلدهم ويجتاحها ويحتكرها لنفسه، بينما اللّاجئ هو إنسان يبحث عن مكان آمن يؤويه من حرب دمّرت منزله وعاثت في بلده فساداً.
من الصعوبات الأخرى التّي مرّت بها الفتاة هي أنها كانت لا تمتلك الأوراق والفحوصات اللازمة لاستكمال ملفّها المدرسي حتى تتمكّن من الحصول على الشهادة الثانوية؛ حيث يتطلب ذلك الرجوع إلى سوريا للعمل على بعض الإجراءات، ولكن كل المحاولات التّي أجرتها للحصول على هذه الفحوصات والأختام باءت بالفشل، حتّى إنها كانت على وشك إعادة سنوات الثانوية منذ البداية لولا رفض المدرسة لهذا الطلب، ممّا أصابها بإحباط شديد وتفكير مزمن في أن حلمها الذي لطالما حلمت به منذ زمن وهو الالتحاق بكلية الطب لن يتحقّق، تقول الفتاة: "إيماني بالله وقناعتي بأن لكل شيء حكمة من رب العالمين جعلني أتعايش مع الواقع".
في أي كليّة تدرسين؟ ما هو تخصصك الجامعي؟ أسئلة كثيرة كانت تنهال عليها من كل حدب وصوب لا إجابة لها، لا يمكنها الالتحاق بأي كليّة أو إيجاد عمل مناسب بدون شهادة، هذه هي النهاية، كانت تقضي كل أيامها في المنزل بروتين ممل يومي مسبباً لها فراغاً مؤلماً في حياتها.
النهاية؟ لا ليس بعد، منذ فترة وجيزة أعلنت الفتاة عن حصولها على شهادة ماجستير مصغّر في إدارة الأعمال بعد أن تمكّنت من إيجاد دورة تدريبيّة، وقد فوجئت جداً بهذا الخبر وفرحت لسماعه، أسرعت وباركت لهذه الصّديقة من شدّة فرحي، واستطاعت بعد ذلك العثور على عمل يناسب قدراتها.
أحياناً تكون النهايات مختلفة عما خطّطنا له منذ البداية، وليس هذا بسيئ، فهو أمر دنيوي علينا ألّا نعترض عليه، وأن نتقبّله برحابة صدر، وأن نحاول التأقلم معه بكل ما أوتينا من قوة.. كما فعلت صديقتي.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.