كانت التونسية ندى الوكيل مازالت في الثانوية عندما اقتيدت إلى غرفة التحقيق 27 أول مرة.
أمرتها قوات الأمن بخلع ملابسها وحجابها، فلما رفضت، قاموا هم بنزعها، ثم عمدوا بين الفينة والأخرى أثناء جلسات التحقيق إلى حشر رأسها بالقوة داخل مرحاض.
تقرير نشرته صحيفة واشنطن بوست الأميركية نقل عن الوكيل قولها: "تحول كل شيء في الغرفة إلى أداة تعذيب"، فيما تتذكر أثناء مقابلتها مع الصحيفة الأميركية محركة ذراعها اليمنى كأنها تلقي بالأغراض والأثاث. تتابع "الطاولة، الكرسي، الحزام، حتى الحمام صار جزءاً من الروتين المعتاد."
"حكم جائر"
بعد أكثر من 5 سنوات على الإطاحة بالحكم الاستبدادي في تونس أثناء ثورات "الربيع العربي"، ما زالت البلاد تقاسي فيما تستذكر وتتجرع أحزان وصنوف عذاب الماضي أملاً بالتعافي والتماثل للشفاء.
منذ الشهر الماضي وقلوب التونسيين تتفطر فيما يصيخون السمع لقصص وشهادات الاستغلال والإذلال الواحدة تلو الأخرى التي يتقدم بها أصحابها أمام هيئة الحقيقة والكرامة لتكشف مدة القمع الذي عايشه الشعب طيلة 6 عقود من الحكم الجائر في بث نادر على مسمع الملأ والجمهور ومنقول على قنوات التلفاز والراديو وعلى الشبكات الاجتماعية.
حتى الآن تقدم الآلاف من الضحايا مثل ندى الوكيل بقصصهم وحالات الذل والمهانة التي ذاقوها، وما زال الحبل جراراً.
وتقول: "لقد كنت صغيرة وأحلامي كبيرة. أردت أن أتفوق في المدرسة ويكون لي مشوار مهني"، هكذا تقول الوكيل فيما تغمض وترفرف عيناها قبل أن تقول "لقد سحقوني."
لكن يتطلع الكل إلى استئناف جلسات الشهادة يوم الجمعة هذا بالذات الواعد أن يكون محملاً بجرعات مضاعفة من الألم والغصة، فقبل 6 سنوات من هذا اليوم تقريباً، أقدم البائع المتجول محمد بوعزيزي على إحراق نفسه بعدما زجره مسؤولون محليون، فغدت تلك الحادثة شرارة البداية لثورات شعبية عميمة أطلق عليه اسم الربيع العربي.
ولكن بعد موجات متخبطة من الثورات، بات العديد من المراقبين الدوليين يقولون إن جلسات الاستماع هذه لا تهم تونس وحسب بل المنطقة بأسرها.
قصص مخفية
تقول سلوى القنطري رئيسة مكتب تونس للمركز الدولي للعدالة الانتقالية: "هذه الجلسات تحمل رسالة مفادها أنه حتى بعد سنوات الطغيان والإذلال يمكننا التحدث بسلام وطمأنينة عن العذاب بعيداً عن أعمال الانتقام. لقد مرت كل من مصر وليبيا وسوريا واليمن بثورات، لكنها لم تتمكن من تحاشي العنف والبطش أو اقتصاص المنتصر."
لم يكن الكثيرون محلياً ولا دولياً يعرفون الكثير عن نظام تونس الاستبدادي أولاً برئاسة حبيب بورقيبة ثم رئاسة خلفه زين العابدين بن علي الذي عمل جاهداً على جعل بلاده وجهة سياحية. لكن حتى بعد فرار بن علي إلى المنفى أثناء الثورة وحتى رغم سنوات التغيير السياسي والانتخابات الديمقراطية التي عقدت منذ حينها، ظلت قصص الإذلال والقمع الحكومي مخفية عن أعين الناس.
ثم قبل عامين تشكلت هيئة الحقيقة والكرامة المنوطة بالبحث في فظائع النظام السابق، فتململ السياسيون وأوساط الإعلام الإخباري من تكلفة هذه الهيئة على قلة النتائج التي خرجت بها.
مع ذلك كانت الهيئة قد تسلمت 65 ألف شكوى تروي ألوان المعاناة والانتهاك التي يرجع بعضها إلى عام 1955، منها 10 آلاف شكوى حققت الهيئة في وقائعها. لكن اللجنة ما عادت مخولة لتسلم المزيد من القضايا والشكاوى المرفوعة لها منذ انتهاء الأجل المحدد لتسليم الشكاوى والذي كان في يونيو/حزيران الماضي.
ثم جاء شهر نوفمبر/تشرين الثاني لينفجر الصمت المطبق مدوياً.
"أشبه بزلزال"
عقدت الجلسات في قاعة استجمام مثمنة الأضلاع كانت ملكاً لزوجة الرئيس السابق، وأحياناً بدا على الجمهور أنهم غير قادرين على تحمل جو القاعة، فانهمرت الدموع من عيون كبار السياسيين والجمهور فيما استمعوا للشهادات الشخصية غير المشفرة ولا الممنتجة التي قصّها أصحابها عن عذابهم وفقدهم لأحبتهم.
تقول ابتهال عبداللطيف عضو الهيئة المضطلعة بقصص الضحايا من النساء "جلسات الاستماع هذه أشبه بزلزال، فقد خلقت صلة إنسانية بين المواطنين التونسيين."
وكان من الصعوبة بمكان حث النساء على التشجع للتقدم بشكاويهن، فـ 23% فقط من الشكاوى المقدمة للجنة كانت من النساء.
وتتذكر عبد اللطيف أن العديد من النساء أتين للتقدم بشكاوى لكن نيابة عن أزواجهن رغم أن "النساء كثيراً ماعانين مثل الرجال إن ليس أكثر."
وتضيف عبد اللطيف "بعد سنين من السخرية وتحاشي العائلات والمجتمع لهن خاصة في الأجزاء المحافظة في تونس" تخشى النساء "إصدار الآخرين من حولهن أحكاماً عليهن" إن حاولت النساء مواجهة "المؤسسات والأفراد الذين انتهكوهن."
مع ذلك كشفت شهادات النسوة اللاتي تشجعن للكلام كيف أن الدولة وصمت ونبذت النساء بتهديدهن بالاغتصاب ومنعهن من الزواج أو إجبار الأزواج على تطليق نسائهن. كذلك نسفت قصصهن وأقوالهن كل الصورة المنمقة بعناية التي كانت قد رسمت تونس كأنها شعلة ومنارة لحقوق المرأة في المنطقة.
عقوبة على الزي المحافظ
في مركز محلي ببلدية ناحيتها جلست ندى الوكيل و3 نسوة أخريات يبكين فيما قصت كل واحدة منهن تجربتها في سجون نظام بن علي. وصفت الواحدة تلو الأخرى منهن كيف أجبرت على أكل العفن والخضوع لاختبارات عذرية وكيف قطع عنهن الماء عند حلول مواقيت الصلاة لمنعهن من الوضوء والتطهر.
وقالت النساء إن الحكومة التونسية لاحقتهن وعاقبتهن على الزي المحافظ وارتدائهن الحجاب عندما كُنّ طالبات أوائل التسعينيات.
ورغم أن الإسلام دين الدولة الرسمي إلا أن النساء منعن من ارتداء الحجاب عام 1981 في المباني العامة حيث عمدت الدولة العلمانية إلى تصوير الزي المحافظ وقتها مثل رمزٍ للتخلف والطائفية. ومازال هذا القانون موجوداً إلا أنه يتم تجاهله على نطاق واسع منذ ثورة 2011.
في العقود التي تلت قرار حظر الحجاب تعرضت النسوة التونسيات المحجبات إلى "مضايقة الشرطة في الشوارع والاستدعاء مراراً إلى مراكز الشرطة والإبعاد عن القطاع الخاص" وفق الأبحاث التي قام بها المركز الدولي للعدالة الانتقالية.
معاناة النساء
وقالت بعض النساء أنه لسنوات حرمتهن السلطات المحلية من أبسط أمور الحياة وأبعدتها عن متناول أيديهن مثل الحصول على شهادة قيادة السيارة أو وصل بيوتهن بشبكة المياه وحتى شبكة المجارير.
الآن وقد بلغت النساء الأربعينات من أعمارهن تقدمت كل منهن بقصتها وقضيتها إلى الهيئة.
نجاة قابسي سجينة سابقة كانت طالبة حقوق وكان تطمح لتكون قاضياً، واليوم تشعر بالألم لأنها لم تقدر على تحقيق أحلام وآمال والديها.
"كان أبي يقول أني أمل حياته، لكنني في النهاية تحولت إلى مصدر للعار. كنت ضحية، لكنني شعرت أيضاً أني تحولت إلى عذاب عائلتي."
تروي نجاة قابسي بعينين ملؤهما الدموع كيف أن حبسها أفسد حياة أختها وأخيها إذ حال دون زواج الأولى ومنع الثاني من العثور على عمل. تقول قابسي "طوال حياتي كنت أرى نظرة اللوم في عيني أبي حتى توفي."
ولكن هؤلاء النساء يقلن أن ما تردنه أكثر من مجرد التعاطف هو رؤية السياسيين يحدثون تغييرات تمنع تكرار ما حدث ثانية.
تقول الوكيل "أقول لابنتي أني أريدها أن تتفوق وتحلّق حتى لو كنت قد منِعتُ أنا نفسي من التحليق. لقد سحقوني، لكن مع ذلك أطفالي سوف يكون حالهم أفضل."
هذا الموضوع مترجم بتصرف عن صحيفة The Washington Post الأميركية. للاطلاع على المادة الأصلية، اضغط هنا.