على ركام فوضى روحيّة تناثرت في الشّباب المغترب بين ماضٍ كان به أساسه الذي ترعرع في كنفه، وبين حاضرٍ مختلف ساعد باختلافه ذاك على كشف اللّثام عمّا شاب الماضي من أخطاء، قامت الإلحاديّة بعباءة العلمانيّة تنخر في ثنايا الأفكار؛ لتبدأ دعوتها بالتحرّر من قيود مجتمعٍ بالٍ، وصولاً إلى أن تغرز بسكينها في حُرمة الدّين، وإليه كانت خبث غايتها منذ البداية.
فلمتتبعها الحريّة في التّملص من عبوديته لإله ولكلّ ثابت، ولكن بالمقابل تُنتَفى الحريّة عن غيره في اختيار الانتماء لدين يصونه، فتحرّر الإلحاد يسير في تيّار واحد يصبّ في مصلحة دعواته، ناهيك عن أنّ ما يتذرّع به الإلحاد ظاهراً من تبنّيه للإنسانيّة هو جزء لا يتجزّأ من منظومة الإسلام التي غفل عنها أصحابها بسبب عدم تعمّقهم في دينهم، فجاء من نادى بها وتنكّر نسبها للدّين وأخذ يصدح بمبادئ إسلاميّة بعيداً عن الإسلام، فغُسلت العقول بمنأى عن الحقيقة.
بخطابٍ عقليّ، واستغلالٍ لهشاشة معرفةٍ لبُنيَّة دينيّة، ودسّ السّم بالعسل بمنهجيّةٍ منمّقة، وزرع بذور التّشكيك في الدّين خصوصاً بعد ما عاشه الشّباب من أزمة ثقة بممثّلي دينهم في مجتمعاتهم، وجعل الإلحادييّن من الدّين شمّاعة لكلّ معيق للتّطور والرٌقي والتّقدم وعنواناً للرّجعيّة والطّائفيّة والجمود، وزعمهم أنّ الدّين بركبه لا يتّفق مع العلم وسير الحضارة، وأنّه بقيوده آل بالمجتمعات الإسلاميّة إلى ما آلت إليه من تخلّف عن النّهضة المعاصرة، إضافة لإقامتهم منتديات حواريّة ألحقوها بالثقافة ليتستّروا بها ويبثّوا أفكارهم تحت غطائها بأسلوب منطقي يخلو من منطقيّة أفكار وهذا مما لا يُنكر عليهم، فهم يجيدون فنّ الكلام، ولكن هل كلّ مَن أجاد سبك الكلمات كان محقاً بها؟!
وبهذا انقادت جموع الشّباب مهلّلين وراءهم، فمن نجى بنفسه من مدفعيّة الحرب خسر دينه في زيف دعوات إصلاحيّة، مغيّبين بذلك عن تراث حضارة كانت تضرب بأركانها العالم وتهتزّ لها الأفئدة، وأنّ كابوس الانحدار الحضاري دقّ ناقوسه لحظة تزعزع أصحابها عن جوهر دينهم وتخلّيهم عن مبادئه.
ومع غياب يدٍ تجمع شبابنا، وترشد ضياعهم، وتقرّب الفجوة ما بينهم وبين ما ثاروا عليه من بدعِ مؤسّسات دينيّة، كان ما يسمى "إسلاميّو الهويّة"؛ إذ تلقّفتهم الإلحاديّة بغطائها العلماني بين ذراعيها تجمع شتات بعثرةٍ غفل عن ترتيبها ولاة وجب عليهم خلق بيئة لا تتعدّى في بنيانها حدود الدّين، تُعايشهم مع واقعهم..
تنقذهم من ضياع انفتاح مجتمع جديد وبدع مجتمع قديم، تمدّهم بأيادٍ رشيدة تلائم حياتهم، تنشلهم من براثن الدّجى، فلا انزواء في كهف التّنسّك خشية فتنة ولا غوص في شعارات فارغة من أساس، بل تعايش إسلامي بأسلوب جديد مضاد لعبثيّة التّيّارات الجديدة وملائم مع مجتمع منفتح غريب، فأساليب الماضي في الدّعوة لم تعد تُجدي مع شبابٍ باتت المهاوي تتجمّل لهم، لا بل تُحاكي عقولهم بمكر متكلّمٍ أتقن كيفما شقُّ الطّريق يكون إليهم، فالباطل تجمّل بروح الحيويّة مزخرشاً بزيف ألوان تخدع بتمازجها العيون، ولكن بالمقابل أثّر ذلك على الحقّ سلباً فمع مبالغة الأول بأضوائه -أي الباطل- بدا الحقّ باهتاً بلا حياة يلفّه الجمود، وذاك لعدم حاجته لزخرفة تجمّله ولا لأدوات تجذب الأبصار إليه، فبجوهره سنا يأسر الأفئدة لكلِّ مَن يرنو إليه بنظره.
ولا يخفى علينا الجهل المتفشي بين المسلمين بحقيقة دينهم، الدّين عبادة وفرائض ولا مجال لمخاطبة العقل فيه، لا بل وكان يندّد بمَن يتجرّأ بمناقشته والتّبحّر بما وراء العبادات والاستفسار عن جوهر الدّين، وقد تصل الأمور في بعض الأحيان إلى الإقصاء أو التّكفير بمَن تجرّأ وتفوّه بالسّؤال، ومن هنا كانت الثّغرة التي تسلّل منها الإلحاديّون.
فكما تحتاج الأمراض التي تفتك في أجسادنا إلى دواء مضاد، كان شبابنا أحوج لمناعة فكريّة عقائديّة تسدّ ثغراتهم وتصدّ هجمات من يحاول النّخر في إسلامهم.
فهل من منتديات حواريّة تفتح باب النّقاش المفتوح عن ماهيّة الدّين وما وظائفه في هذه المرحلة؟
وماذا ببرامج دعويّة تحمل روح العصر، تحاكي العقل كيفما تحاكي الوجدان، تفهّم الشّباب وتفقّهم جوهر الدّين، تربط الدّين بجوانب الحياة كافة؟
وكيف لو احتوينا الشّباب بمبادرات تقرّب الفجوة منهم، يفصحون فيها عمّا يعاركهم من أسئلة وجوديّة تدور في خلجاتهم، يجدون إجابتها من خلال حلقات بحثيّة تشاركيّة يشرف عليها أناس ثقات، تزيح الاستفهام عنهم بدلاً من إخفائه واللّجوء لأبواب غير موثوقة تجيبهم عن أسئلتهم الوجوديّة.
ولماذا التّجمّد بقوالب للدّعوة وأساليب العصر في الجذب بتجدّدٍ؟
بتوجّهٍ فكّري وفعل ملموس من ولاة الأمر يُلامس بخطواته واقع الشّباب المغترب، ينفض غبار الحسرة عنهم، ينتشل الجيل من أغوار مغتربهم، يساعدهم بالاندماج الصّحيح بمجتمعات جديدة، كانت آمال الشّباب تنادي.
فهل من سامع لاستغاثات شباب عاشت غربة الأرواح، وغربة الأديان، كما غربة الأوطان.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.