فاعلية المجتمعات في عصر لم تعُد فيه الأشياء مستحيلة

المجتمعات المعاصرة والمتقدمة دخلت إلى الفاعلية، عبر بوابتين كبيرتين؛ الأولى واجهة المشكلات مستبشرة لا متشائمة، فإذا ما واجهنا الأمور فقد أصبحت في حكم الاستحالة

عربي بوست
تم النشر: 2016/12/13 الساعة 04:03 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/12/13 الساعة 04:03 بتوقيت غرينتش

إننا عندما نلقي نظرة فاحصة على المجتمعات المعاصرة في القرن العشرين، نجد أنها تختلف في نواحٍ عدة وتتشابه في نواح أخرى، والاختلاف الذي يلفت النظر يتمثل في جانب أصيل من جوانب المجتمعات، ألا وهو نشاط وفاعلية تلك المجتمعات التي تتفاوت درجتها من مجتمع إلى آخر، هذا العنصر أصبح عنصراً أساسياً، خصوصاً في العصور الحديثة التي أدركت أهميته المجتمعات المتقدمة بل وجعلته فوق كل القيم الأخرى، وهو يختلف باختلاف المجتمعات حتى يمكن أن نتخذه مقياساً خاصاً لقياس المستوى التاريخي لهذه المجتمعات، فهناك مجتمعات أكثر فاعلية من مجتمعات أخرى، وإذا تقرر هذا في ذهن كل ناظر إلى تلك المجتمعات، وقد يتقرر بمجرد النظرة إلى قائمة النشاط أو الفاعلية في ذلك المحيط، فيجب أن نتساءل: ما السبب في هذا الاختلاف في درجة الفاعلية؟

والجواب يقتضي احتمالين في نطاق المنطلق العام فقد نقول إن المساءلة تتعلق بناحية نفسية، أن تلك المجتمعات أدركت خطورة المستقبل وأجابت عن أسئلة العصر، فبالتالي هي تجني تلك الثمار، أو نقول إنها تتصل بناحية اقتصادية، وهو واحد من المحركات القوية التي دفعت المجتمعات نحو الفاعلية بشكل غير طبيعي، والثانية هي نتاج الأولى.

ومن هذه النظرة وتفحص تلك المجتمعات سنجد أنفسنا أمام حالة مركبة، ولا نستطيع الخروج منها إلا عن طريق ملاحظات أخرى، فمن ناحية نلاحظ أن فاعلية المجتمعات المعاصرة تختلف من مجتمع إلى آخر، علينا أن ندرك أن تلك المجتمعات أياً كانت معتقداتها، أدركت وعملت بالمفهوم القرآني العميق: "ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجز به"، و"سوءاً" هنا منكرة، إن عملت سوءاً في السياسة أو الاقتصاد أو الاجتماع وغيرها، ستنال نتائج ذلك السوء، ولا يمكن التغلب على السنن والنواميس الكونية، هذا المفهوم الرباني العميق يجب أن تتخلق عقلية ونفسية الشخص العربي والمسلم بتلك المفاهيم؛ لأن هناك في العمق قناعات، وكل ما يدور حولها هي تبريرات، ومن ثم سلوك هو شعور بعدم الإمكان؛ لأن الشخص اليوم لا يحكمه جسده ولا قلبه، وإنما تحكمه الأفكار التي يحملها، وكذلك المجتمعات هي تحمل منظومات، وحسب تلك المنظومات تكون نتائج وفاعلية تلك المجتمعات.

مهما تكن الأسباب الكائنة وراء ظاهرة النشاط الاجتماعي، فإنه يمكن حصرها في سبب عام نصطلح عليه بالفاعلية، وهذا لا يؤدي قطعاً إلى تفسير واضح، إنما يحدد ذلك المفهوم، لا في منطوق الكلمة اللفظي، بل في حقيقتها الاجتماعية ومضمونها، أي تشخيص حقيقة اجتماعية نقيس بها جودة ذلك المجتمع، الفاعلية هي معيار يمكن من خلالها أن نحكم على المجتمعات المتقدمة أو المتخلفة، وتتسم الفاعلية أيضاً في صورتين مادية ومعنوية.

من الناحية الأولى، نرى أن نشاط ذلك المجتمع ينتج حاجات حتى يستغل أفراد المجتمع تلك الحاجات، وهذا لا يتعلق فقط بتلك العملية الصناعية أو ذلك المنتج البسيط، ولكن في تلك النفسية التي سيشعر بها أشخاص ذلك المجتمع وغرس للهوية، ولو أخذنا ذلك المثال على صناعة معمل الكيمياء، ونحن نسمع العالم يردد وينسب علم الكيمياء إلى "جابر بن حيان"، ويقول إنها كيمياء جابر، عندما تسمع ذلك أمام الأمم والمجتمعات ستشعر بنفسية مختلفة.

ومن الناحية المعنوية نرى أن هذه الفاعلية تفرض على المجتمع حياة منظمة خاضعة لقوانين معينة، فنجد في هذا أو ذلك المجتمع البسيط ظاهرة تقسيم العمل، فتزيد مهام الشخص عن عشرة أنواع، من العمل كل مهمة لها رصيدها من الطاقات الاجتماعية.

المجتمعات المعاصرة والمتقدمة دخلت إلى الفاعلية، عبر بوابتين كبيرتين؛ الأولى واجهة المشكلات مستبشرة لا متشائمة، فإذا ما واجهنا الأمور فقد أصبحت في حكم الاستحالة، حتماً ستكون النتائج غير التي نريدها، فبالتالي لا بد من تعزيز مساحات الأمل والباب الآخر، لا للتساهل؛ لأن نفسية التساهل تجعل طاقات الإنسان غير مستفزة في جميع المجالات، في التعليم والصناعة والزراعة.. إلخ.

إذا ما نظرنا إلى الأشياء على أنها أمر تافه لا قيمة لها، لن تدرك تلك الخطورة إلا عندما تجني ثمار تلك الاستهانة، فقد نظرنا إلى مجتمعات كثيرة على أنها لا شيء وشعرنا نحن أفضل منهم بكثير، والآن تلك المجتمعات لها بصمات واضحة في هذا العالم، فينبغي علينا أن نتخلص من نفسية المستحيل ونفسية التساهل، فليس هناك شيء سهل، وليس هناك شيء مستحيل، ثم إن الباب الذي ينبغي أن نعود منه إلى الفاعلية الاجتماعية هو باب الواجب، وأن نركز منطقنا الاجتماعي والسياسي والثقافي على القيام بالواجب أكثر من تركيزنا على الرغبة في نيل الحقوق؛ لأن كل شخص بطبيعته توّاق إلى نيل الحق ونفور من القيام بالواجب، وهذا أيضاً يخالف السنن والقوانين الكونية؛ لأن السنن الكونية تقول إن كل شيء في هذه الحياة حقوق وواجبات, إذاً لسنا نريد من الفرد أن يطالب بحقوقه، فالطبيعة كفيلة بحقوقه، بل ينبغي على أصحاب الخطاب والمثقفين ومن يمثل كل سلطة أن يوجهوا الهمم إلى الواجب، فالمجتمعات التي تتقدم وتنمو، فإن ذلك يعني أن لديها رصيداً من الواجب فائضاً على الحقوق، كيف ترتقي ظاهرة الفاعلية الاجتماعية؟

نجد أن هذه الظاهرة تخضع لقانون معين "أن الفاعلية تنمو تدريجياً مع تعقد المصلحة"، أي أن النشاط الاجتماعي يرتقي بقدر ما يكون النشاط الفردي موجهاً لسد حاجات الغير.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد