أعلن تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) اليوم الثلاثاء 12 ديسمبر/ كانون الأول 2016 مسؤوليته عن تفجير في كنيسة ملحقة بكاتدرائية الأقباط الأرثوذكس بالقاهرة يوم الأحد الماضي أسفر عن مقتل 25 شخصاً وكان الهجوم الأعنف الذي يستهدف الأقلية المسيحية منذ سنوات.
إلا أن اسم المفجر الانتحاري الوارد في بيان وكالة أعماق الموالية للتنظيم، وهو أبو عبد الله المصري"ـ يختلف عن الاسم الذي ذكرته السلطات المصرية لمنفذ الهجوم، عندما أعلنت يوم الاثنين أن شاباً يدعى محمود شفيق محمد مصطفى، ويُلقب بـ"أيو دجانة" هو من قام به.
وانضاف هذا الاختلاف في الاسم إلى مجموعة من المعلومات التي تثير الشكوك حول التفجير، وتطرح الأسئلة حول ما إن كان قد تم تنفيذه بحزام ناسف، وهو ما أعلنه الرئيس السيسي، أم باستعمال قنبلة.
"خرموا جسمك بالبلى يا أماني". كلمات رددتها سيدة عجوز في العقد الخامس من عمرها بعد أقل من ساعة عن توقيت تفجير الكنيسة البطرسية الذي وقع صباح أول أمس الأحد، وهي من أهالي إحدى الضحايا أثناء وجودها داخل قسم الطوارئ في مستشفى الدمرداش الجامعي. كان المشهد على بعد أمتار قليلة عن موقع التفجير المجاور لمبنى الكاتدرائية، في حي العباسية التابع لقسم الوايلي بالقاهرة.
صرخات السيدة العجوز وسط انهمار دموعها أعلنت أنها لن تهدأ حتى ينال الجاني عقابه، وبعد سقوط الضحايا أصبح الهدف الأول هو البحث عن الجناة وإنزال العقاب بهم.
بعد انتهاء مشهد السيدة العجوز كان هناك تجمع لعدد من الصحفيين حول شخص يحمل عدة صور على هاتفه. الصور بها كرة حديدية ليست حادة الأطراف، لونها يميل للفضي مع بعض آثار الدماء الواضحة عليها. الشاب حامل الهاتف كان في العقد الثاني من العمر مسيحي الديانة يتضح ذلك من سلسلة تنتهي بصليب، حديثه أجاب عن تساؤل كان يدور في عقل أي صحفي عن ظروف تلك الصورة، وقال "البلية دي أخرجوها من ذراع أختي"، ثم مر طبيب شاب والتقط الحديث ليعلن معظم الضحايا كان بهم تلك الكرات.
الرواية الرسمية الأولى: انتحاري وحزام ناسف
بعد حوالي 28 ساعة من التفجير، وفي الساعة الثانية من ظهر الإثنين كشف الرئيس عبد الفتاح السيسي أثناء تشييع جثمان الضحايا عن الرواية الرسمية الأولى بشأن هوية الجاني. "انتحاري يدعى محمود شفيق محمد مصطفى (22 عاماً) هو من فجر نفسه بحزام ناسف داخل الكنيسة البطرسية".
وحددت كلمات الرئيس طريقة تنفيذ الجريمة عن طريق حزام ناسف ارتداه الانتحاري ودخل به وسط جموع المصلين، وضغط على زر المفجر مع صلوات الحاضرين، ولكن سرعة إطلاق الكلمات أثارت شكوك البعض في الرواية الرسمية حول تنفيذ الجريمة مع سرعة الكشف عن تلك التفاصيل.
"سهروا طول الليل يجمعوا في جثته" كلمات ذكرها الرئيس بملامح صارمة تبرز روح الانتصار بسرعة كشف الجاني، لكنها أعطت مؤشراً أن الطب الشرعي شارك في كشف هوية الجاني، بسرعة أدهشت الرأي العام.
وهنا يفند مصداقية الرواية الرسمية الدكتور فخري محمد صالح رئيس مصلحة الطب الشرعي وكبير الأطباء الشرعيين السابق بوزارة العدل، بقوله "أيوه يمكن تأكد الشخصية في وقت قليل عن طريق تحليل الـ"DNA"، لكن البحث عن هوية الجثة يأخذ وقت طويل عدة أيام".
يشرح فخري ما قاله في تصريحات خاصة لـ"عربي بوست"، ويقول "التأكد من الشخصية جاء مع وجود دلائل قوية على أن الجاني شخص محدد، والدلائل قد تكون صوراً أو شكلاً أو الأجزاء الموجودة، أو كاميرات تم تصويرها من جانب السلطات، وهنا يكون الـ DNA للتأكد فقط، ويمكن إجراء ذلك سريعاً".
"الطب الشرعي يبحث فور الجريمة عن أجزاء بشرية متقطعة بها إسوداد بارودي واحتراق شديد تكون القريبة جداً من موقع التفجير، ويتم تجميع تلك القطع المرتبطة مع بعضها البعض كما حددت فنيات الطب الشرعي مع مراعاة الشكل ولون الأنسجة وعمره لترسم صورة قريبة لشخص ذي عمر محدد يعطي ملامح تشير إلى صورة يمكن البحث عنها في قوائم أمنية موجودة مسبقة، ساعد في ذلك وجود الرأس بحالة جيدة، ما يشير إلى أن عبوة التفجير كانت ملفوفة على وسط الشاب"، هكذا استمر خبير الطب الشرعي في تأكيد صدق الرواية الرسمية.
الرواية الثانية: رمان البلي مرة أخرى
تصريحات الرئيس السابق للطب الشرعي تؤكد الرواية الرسمية الأولى بوجود انتحاري بحزام ناسف وكيفية سرعة معرفته، إلا أن تلك الرواية تصطدم بما قالته السيدة الخمسينية من وجود كرات بلي داخل الضحايا، خصوصاً أن تلك الكرات الحديدية تتواجد في القنابل بدائية الصنع وليس الحزام الناسف، وهنا جاءت الرواية الرسمية الثانية.
نشرت جريدة الأهرام الحكومية الاثنين تصريحاً للدكتور هشام عبد الحميد كبير الأطباء الشرعيين و مدير مصلحة الطب الشرعي تحدث فيها عن تلك الكرات الحديدية الصغيرة.
"تم استخراج كميات كبيرة من الرمان البلي من أجساد الضحايا، والتفجير كان بطريقة تصاعدية حيث تم من أسفل إلى أعلى، والمكونات التي كانت داخل العبوة الناسفة واخترقت أجساد الضحايا وتسببت فى موتهم هي من نفس النوع الذي تم استخدامه في تفجير كمين الهرم الذي وقع يوم الجمعة الماضي، والصفة التشريحية لشهداء الكنيسة نتيجة الانفجار كشفت عن تركز الإصابات في الوجه والصدر والبطن". تلك كانت نص تصريحات رئيس الطب الشرعي للأهرام.
الرواية الرسمية الثالثة: الانتحاري يدخل "مكاناً مألوفاً"
مساء الاثنين، وعلى شاشة قناة صدى البلد، وفي برنامج على مسئوليتي، عرض المذيع أحمد موسى ما وصفه بالفيديو الحصري للحظة دخول المنفذ المحتمل للجريمة، وأشار المذيع إلى شخص يدخل من باب جانبي إلى مبنى الكنيسة، ثم يحدث الانفجار بعد ذلك بعدة ثوان.
"يستحيل الرمان بلي داخل حزام ناسف"
اللواء جمال مظلوم الخبير العسكري المصري يرفض وجود كرات حديدية داخل الحزام الناسف للانتحاري، ويضيف في تصريحات خاصة لـ"عربي بوست"، إن الحزام الناسف لو اشتمل على كرات رمان بلي الخاصة بالقنابل المصنوعة يدوياً، سيصبح ضخماً بدرجة غير طبيعية نهائياً، ومن الصعب بل من المستحيل أن ينجح التنفيذ على هذا النحو".
هناك أمر هام آخر، كما يضيف الخبير العسكري، "وهو أن مقاطع الفيديو التي تظهر دخول الجاني إلى داخل الكنيسة مع توقيت التفجير تؤكد أنه قام بزيارة المكان أكثر من مرة قبل يوم التنفيذ، وهذا الحديث ألمح له حارس الكنيسة أمام النيابة، حين تحدث عن تردد الشخص الانتحاري مساء التفجير على الكنيسة.
مصدر أمني قال على صفحات جريدة الشروق بعدد الثلاثاء، إنه "من الممكن أن يكون الانتحاري غير ديانته في بطاقته الشخصية فى الفترة الأخيرة لإنجاح مخططه".
ويرد اللواء مظلوم بأن هذا جائز، "للأسف وزارة الداخلية مازال بها قطاعات فاسدة، وأمر تزوير بطاقات الهوية أو شهادات الميلاد ظاهرة معروفة وهناك لوبي بالوزارة يقوم بذلك مقابل المال، ووفقاً لتخطيط تلك الجماعات فإنه يجب عليه تفقد موقع التفجير عدة مرات قبل تنفيذه".
وتابع "هنا هو يقوم بتفجير نفسه ويرغب في التأكد من وقوع أكبر كم من الضحايا، ووصلت دقة تلك الجماعات في التخطيط للعملية إلى اختيار توقيت الإجازات الرسمية لتنفيذ العمليات حيث يكون هناك حالة استرخاء أمني، وهو الأمر المتوفر في تفجير الكنيسة حيث كان الأحد إجازة رسمية بمناسبة المولد النبوي".
الكثير من تعليقات المواقع الاجتماعية تناولت الفيديو بالتفنيد، كان منها ما كتبه الصحفي وليد الشيخ والقول بأن فيديو الإثبات قد يتحول إلى دليل نفي، مع وجود مؤشر بالفيديو الذي لا يخرج إلا من جهات أمنية، في حين أن حديث الإعلامي عن شخص هو بالفعل من دخل الكنيسة ونفذ التفجير.
الرواية الرسمية الرابعة: انتحارية نفذت التفجير
أُكد دخول سيدة إلى الكنيسة البطرسية بالعباسية، يوم التفجير وكان معها عربة أطفال عليها طفل يجلس فوق قنبلة، وأن عربة الأطفال سهلت دخول السيدة دون الشك فيها، كما نقل موقع "البوابة نيوز" القريب من الجهات الأمنية عن مصدر أمني.
والمثير للانتباه أن تلك التصريحات لا يمكن التعامل معها كونها توقعات أولية في ظل حديث الطب الشرعي عن وجود أشلاء لجثة سيدة من ضحايا التفجير لم يتم التعرف عليها حتى الآن.
هل يمكن أن تكون كل هذه الروايات صحيحة؟
"نعم، قد تكون عملية مزدوجة لا يقوم بها إلا أشخاص خاضوا تدريباً عسكرياً متقدماً". هكذا يجيب الدكتور عادل عامر رئيس المركز المصري للدراسات الأمنية والسياسية عن تحليله لمشاهد الحادث ما بين مكان التفجير وآثاره على أجساد الضحايا.
ويقول عامر في تصريحات خاصة لـ"عربي بوست"، إن الحزام الناسف مكون من مجموعة بارود تحوي مواد كيميائية أشهرها الـ"تي إن تي"، ولكن الأكثر فتكاً واستخداماً الآن مادة الـ"سي فور"، لا تحتوي على قطع معدنية نهائياً لكنها أكثر في قوتها التفجيرية من قنبلة مزروعة، حيث يستوعب الحزام مواد متفجرة تصل إلى 20 كيلو غراماً، في المقابل تكون القنبلة بها نصف كيلو غرام بحد أقصى".
القنبلة المستخدمة في هذه الحالات بها أمواس حادة وكرات من رمان البلي لاختراق الجسد وإحداث أكبر كم من الإصابات، في ظل قلة المادة المتفجرة بها لضيق محيطها الذي لا يستوعب سوى نصف كيلوغرام من المادة المتفجرة، ومحيط تأثير القنبلة بعد الانفجار يكون في حدود دائرة نصف متر وارتفاع مترين فقط، وتأثيرها الأكبر يكون داخل الأرض.
ويختم رئيس المركز المصري حديثه قائلاً "حجم تأثير الانفجار داخل الكنيسة ووصوله إلى السقف يؤكد وجود حزام ناسف مع انتحاري، ووجود كرات رمان البلي داخل أجساد الضحايا يؤكد حتمية وجود قنبلة، وهو ما يشير إلى سيناريو العملية المزدوجة المدروسة جيداً لإحداث أكبر كم من الخسائر في الأرواح: قنبلة وحزام ناسف ينفجران في اللحظة نفسها".
والحيرة مستمرة
تضارب تصريحات الجهات الرسمية وضع الكثير من علامات الاستفهام حول الرواية الرسمية. بيتر مجدي، قريب إحدى الضحايا، قال في نبرة حزن "بصراحة نحن يساورنا الشك في رواية الأمن، وحائرون".
وقال بيتر في حديث خاص لـ"عربي بوست"، إنه "ليس أمامنا إلا انتظار نهاية التحقيقات الرسمية لتكون أمامنا صورة كاملة لرواية الأمن وحينها سنحكم على مدى منطقية تلك الروايات، وحقيقة ما جرى لأهلنا أثناء الصلاة بالكنيسة".