درجة الحرارة في بروكسل الليلة 15 درجة تحت الصفر، ويوجد احتمال بأن الكهرباء لن تتحمل الضغوط الملقاة عليها؛ لذا فعلت فعل مَن يخزن البضائع وقت الأزمات، وفتحت دفايات السكن كلها حتى آخرها؛ كي أخزن شوية دفء.
لكن رغم الحوائط العازلة والدفايات الضاجة والملابس الثقيلة، ما زلت أشعر بشدة البرودة في الخارج، قلت ربما لأنني أسكن في الدور الخامس وحولي فراغ.
وتذكرت أن لديَّ في البدروم دفاية كهربائية اشتريتها للطوارئ، فجئت بها ووضعتها بالقرب من مكتبي، وعندما وصل الهواء الساخن إلى قدمي شعرت بأسى ونوستالجيا قوية وتذكرت أستاذي العتيق جداً الدكتور علي الجندي -رحمة الله عليه- فقد كان له هيبة وجلال نادران، وكان إحدى الشخصيات الأسطورية في كلية دار العلوم. وآخر عهدي به عندما كان يدرس لنا في السنة التمهيدية للماجستير مادة "تاريخ البحث في الأدب الجاهلي ومناهجه"، وكان قد درّسه لنا في السنة الأولى من الكلية، من خلال كتابه الشهير "تاريخ الأدب الجاهلي" (1966)، وكنا ندرس الطبعة الضخمة ذات الغلاف البني الغامق التي أصدرتها دار المعارف سنة 1985.
وكعادة الشباب المندفع لم نعرف قيمة الرجل إلا بعد فوات الأوان، لكن ما شغلنا آنذاك أن الرجل كان له "كراكتر" خاص ومغرٍ جداً بالنسبة لنا كطلاب صغار في السن، فالرجل كما كنا نعرف أحد بقايا دار العلوم القديمة حين كانت في مبناها القديم في حي المبتديان (مكانه الآن حديقة دار العلوم بقرب مقر حزب الوفد الجديد وصحيفة روز اليوسف)، وحين نقلت الكلية وهياكلها الإدارية إلى حرم جامعة القاهرة سنة 1980 انتقل هو معها، وظل بها حتى خرج على المعاش ثم عاد إليها أو استمر بها كأستاذ متفرغ للمادة نفسها أي "تاريخ الأدب الجاهلي".
وكانت له تقاليد راسخة في المجيء وفي الانصراف، فكان يصل الكلية بسيارة "كاديلاك" موديل قديم جداً قد يعود للخمسينات، فتقف السيارة ببطء شديد أمام سلم الكلية بالضبط، وينزل هو منها بصعوبة، ولكن دون مساعدة؛ لأنه يرفضها لو قدمت إليه، ثم يقف ببطء عند أول درجة في سلم الكلية، وكأن إيقاع الكون قد توقف للحظات، يهش فيها كل من يجرؤ على أن يظهر أمامه حتى من أساتذة الكلية، وجميعهم دون استثناء تلاميذ له! نختفي جميعاً، أساتذة وطلاب حتى حرس الكلية وضابط أمن الدولة القابع بداخلها، فلا يبقى من كل هؤلاء إلا حارس نوبي شديد السمار شديد القدم مثله تماماً، فكنا نظن أن بينهما معرفة أصيلة، ويصعد الدكتور على السلم بمفرده، لا يريد مساعدة أيضاً، وإذا ما وصل إلى آخر درجات السلم يعطيه الحارس النوبي العجوز التحية الواجبة، والغريب أنه يرد عليه تحيته، وربما كان هو الوحيد الذي يرد عليه الدكتور في الكلية كلها.
وكنا ننتظر محاضراته عن الأدب الجاهلي بشوق شديد، ونتصور أننا لن نفهم هذا الأدب القديم إلا من هذا الأستاذ القديم أيضاً، فإذا غاب، ونادراً ما كان يفعل، تجدنا نتندر ونقول "الدكتور علي ركب الناقة وشرخ"! وكانت محاضراته مقسمة بالقسط بين موضوعها وبين الضجر من الحياة والتبكيت الراقي لكل الأجيال التي مرت عليه في النصف الثاني من القرن العشرين حتى جيلنا، وهو في رأيه بالطبع أعظمها انحطاطاً وتدميراً لتقاليد دار العلوم العريقة، وكنا نتصور وكأن هذه التقاليد العريقة لم يبق منها إلا الأطلال، فألف كأصدقائه الجاهليين الوقوف عليها والبكاء على تلك التقاليد الحبيبة التي ظعنت عن الكلية منذ نُقلت إلى حرم الجامعة وخلفته بين هذه الأجيال الفاسدة المضجرة بجرأتها وقلة أدبها.
وبعد أن اجتزنا المراحل الدراسية كلها ووصلنا للسنة التمهيدي وجدناه ضمن المقرر، وكأنه ينتظرنا، وعندما دخلنا مكتبه للمرة الأولى، في ديسمبر/كانون الأول سنة 1989، وجدناه قد بلغ من العمر عتياً، ولكن عقله كان يقظاً كما عهدناه دائماً، كنا تقريباً عشرين طالباً وطالبة، فنظر إلينا بهدوء وتمعن، ثم نطق بالجملة الأولى في المقرر: "إن شاء الله دون مقاطعة كلكم راسبون".
بالطبع ذهلنا جميعاً، الحقيقة كنا نشعر أن شيئاً ما غريباً سيحدث عندما نراه مرة أخرى؛ لأننا سنقترب منه بشكل غير معهود لنا؛ لذا ضحكنا جميعاً ثم سكتنا سريعاً أيضاً؛ لأنه قال "إلا إذا"، ثم كانت بقية الدرس عن هذه الـ"إلا إذا".
وأثناء المحاضرة شعرنا بهواء ساخن يأتي من تحت مكتبه، فنظرنا فإذا هي دفاية خاصة لتدفئة قدميه وساقيه وما جاورهما، وكنا أكثر تقديراً لقيمة الرجل ومكانته، ورغم ذلك فإننا كالعادة ضحكنا بعد الدرس الأول، وتندرنا وقال بعضنا: "الرجل رجليه ملخلخين ومع ذلك مُصّر على المجيء للكلية".
بالطبع آنذاك لم أكن أتصور أن تدور الأيام ويأتي الوقت الذي أحتاج فيه، وأنا في نصف عمره آنذاك، لدفاية تحت مكتبي.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.