أن تذهب لتحارب فيأتيك الموت فذاك أمر محتمل، أما أن تواجهه في لعبة للتسلية فهذا غريب. أعتقد أننا عندما نقرر اللعب فهناك شيء ما داخل عقولنا يحركنا للمتعة فقط بعيداً عن الخطر وماذا سيأتي به الآن، وقد اخترنا العبث لننسى معه كل مخاطر حياتنا وتحدياتها.
بعد ساعات من انتهاء مخيمنا ظاهرياً، ومشاهدة أفلامنا واختيار الفيلم الفائز "نفسي أصور"، أغرانا مدربنا باللعب وهي لحظة انتظرناها طويلاً، كانت الخيارات بين مغامرة التجديف في النهر أو حرب الكرات الملونة!
نعم، كانت الخيارات محدودة وحتماً تحمل هدفاً أراده الأستاذ، فليس ثمة أمر اعتباطي هنا، حتى اللعب يجب أن يحمل قيمة أو بعداً آخر قد لا نعرفه في وقته، ولكنه مرسوم هناك في عقل مدربنا.. تمنيت لو استرقت ساعات نوم سريعة، ولكن لا مجال لتفويت الوقت الباقي من يومنا الأخير في النوم.
لأنني أخاف الماء ولا أجيد السباحة، اخترت لعبة paintting balls؛ ظناً مني أنها الأسهل، تخيلتها مجرد كرات ملونة يقذفها بعضنا تجاه بعض. أعرف أصدقاء يذهبون إلى أماكن مخصصة للاستمتاع بهذه اللعبة تحديداً، في عطلة نهاية الأسبوع.. فلْأجربها اليوم وأستمتع قليلاً.
شقّت مجموعة التجديف طريقها، ركبوا سيارة سفاري لتوصِّلهم إلى المكان المخصص لانطلاقهم على ضفاف النهر الممتد حولنا. مداعبةً زملائي كعادتي، سجّلت لهم بآلة تصويري لحظات خروجهم من المخيم، ودّعتُهم محذرةً إياهم من مخاطر الغرق، متمنيةً أن نراهم ثانية، لم أعرف أنا وقتها ما قلته عابثةً سيحدث بعد ساعات!
رافقتُ نشوى ومريم ومنّة ويارا ووحيد ومهند وعبد الرحمن وإياد إلى عالم الكرات الملونة، مشيْنا عبر غابة كثيفة على بعد مترات من غرفنا، ولكنّ تلاحم الأشجار ووحولة الأرض جعلاها كمنطقة بعيدة لم نعهد طبيعتها قبلاً، بدا الجو ساحراً؛ يتساقط المطر راقصاً حولنا بخيوط رفيعة متقطعة، في حين تغوص أقدامنا في الطين، بعد مشقة وصلنا.
في الجوار، شاهدنا إطارات ملونة ولوحات خشبية زاهية متناثرة فيما يشبه ساحة حرب حقيقية، وقبالتنا غرفة صغيرة، على نافذتها تتراصّ بنادق تبدو عتيقة، وداخل الغرفة أرفف لملابس الجنود في الحروب. "يبدو أن اللعبة ستكون ممتعة"، هكذا حدّثت نفسي وأنا أحاول ارتداء زي يشبه "المارينز" وأكمل زينتي ببندقية محشوّة بكرات صفراء فاقعٌ لونها.
بدا الأمر كأنها أرض لمعركة حقيقية، خاصة مع ارتداء تلك الخوذة التي تكتم الأنفاس على وجهك ورأسك كاملين والتي لا يجب إزاحتها مهما حدث؛ لخطورة الطلقات على الوجه خاصةً، كم هي خانقة! تتكون من إطار زجاجي سميك مُحْكَم على وجهك،ترى عبره بخار الماء الصادر من تنفّسك يرسم على أرجائها ظلاً باهتاً، وتسمع صوت أنفاسك عالياً، فيما تشعر بعينيك تراقبان كل من حولك بقلق، في حين يحاول عقلك أن يعمل بسرعة تلاحق المطر الذي زادت زخّاته.
مرت دقائق تدفّق خلالها الدم داخل جسدي محاولاً مجاراة تلك الطلقات التي بدأت تهطل علينا من الفرقة المنافسة. وجدتُني مرتبكةً، رغم أنها مجرد لعبة وتلك الطلقات ليست سوى كرات ملونة! إلا أن الرعب تسرب إلى قلبي، حاولت الضغط على زناد البندقية عبثاً فلم تُطلق كراتها، وجدت زميلنا وحيد في الجوار أعطيته إياها ليفحصها كانت مُعطلةً، تنفست بعمقٍ "الحمد لله سأعود للغرفة وأجلس بعيداً عن هذه الساحة"، ولكن كيف أمرّ من سيل الطلقات المتسارع! كان لزاماً أن أحتمي في طريق عودتي، رفعت يدي وطلبت لحظات سكون لأمرَّ فيما تتتابع الطلقات.
تحت شجرة كثيفة، اختبأت وشعرت بالضعف وقلة الحيلة، تذكرت عبد الرحمن وعُقبة وعُتبة وعلمت لماذا لم تجذبهم اللعبة وكيف تفعل وهم يعيشونها واقعاً كل يوم؟!
يا لهؤلاء الشباب، كيف يبتسمون؟! من أين تلك القوة على مواصلة حياة عادية كتلك التي ننعم بها نحن فقط لعدة أيام ثم العودة مجدداً لساحة الموت اختياراً؟! أخاف هنا من كرات ملونة ويواجهون هناك أحدث الأسلحة، كيف يواصل كل هؤلاء الملايين الذين يجدون حيواتهم على شفا موت أو حرب من دون ذنب اقترفوه؟! كيف لقلوبهم أن تواصل دقاتها في هذا العالم البائس بعدها؟! كيف إذا نجوا من تلك اللحظات أن يواصلوا الحياة مجدداً ؟ فلْيلطف الله بقلوبهم.
"الإبادة حاضرة ولحظية، وكل شيء سيبدو سخيفاً وقاصراً وعاجزاً، ومع ذلك لا يمكن إلا أن تفكر في شيء ما، شيء يطرق باب الخزان، يخرق الجدار ويفتح الكوة". هكذا كتب عبد الرحمن بصفحته على الفيسبوك قبل أيام، كأنه يجيب عن أسئلتي جميعاً.
أخاف على عبد الرحمن وعقبة وعتبة كثيراً، أخشى تلك اللحظة التي سيخبرني فيها سطر قصير يكتبه شخص ما بأن أحدهم غادرنا، أعرف أنهم جميعاً يتوقعون ذلك؛ بل ربما يطلبونه، ولكنني أتمنى ألا أقرأ ذلك السطر ما حييت!
سمعت أحدهم يصرخ فجأةً: "آه، أُصبت في عيني، أوقفوا اللعبة". توقفنا جميعاً عن اللعب لنجد زميلنا إياد أُصيب بطلقة بالقرب من إحدى عينيه، هرولنا نحوه، يبدو أن خوذته تحركت مع انطلاق كرة من أحدهم فأصيبت إحدى عينيه. قررنا وقف اللعب بعد دقائق معدودة مرت دهراً، وكان من المفترض أن نستمر ما يقرب من ثلث الساعة.. تساقطت قطرات الدماء من وجه إياد، كان الموقف متوتراً وعبثياً، ولم نعرف أيّنا تسبب في إصابته.
أفرغنا طلقاتنا في الهواء والتقطنا بعض الصور، عدنا إلى غرفنا واستبدلنا ملابسنا سريعاً استعداداً للغذاء ومشاهدة فيلم. توجهنا للمطعم وانتظرنا مجموعة التجديف، لم يظهر أحد، بدا أستاذنا غاضباً؛ فهو الذي يحترم الوقت دوماً ويود لو كنا مثله، يحثنا على أن نُقدّر الوقت كما يفعل، ننجح أحياناً ونخفق مرات عدة. لحظات قليلة وتبدّل غضبه قلقاً عندما علم أن زملاءنا في لعبة التجديف انقلب قاربهم بالنهر!
توترت الأجواء، اتصالات متبادلة مع السائقين والمنقذين ومسؤولي المخيم، صمْت القلق يحمل احتمالات مخيفة، فبعضهم لا يجيد السباحة، وجميعهم منهكون جداً، ربما مرت ساعة ونحن في الانتظار والمعلومات تتوارد عن إنقاذ بعضهم، واستمرار البحث عن الباقين.
ذهب عقلي بعيداً معهم، سألت نفسي فزِعةً: كيف كانت لحظات سقوطهم في النهر؟! وماذا عن مقاومة المياه الثائرة في نهر هو الأشهر بنزَقه وجموحه؟! كيف واجهوا منحدراته وهل كانوا جميعاً على متن قارب واحد، أم تفرّقوا؟! وماذا لو أصاب أحدَهم مكروهٌ؟! أسئلة كثيرة متزاحمة مرت برأسي، شاهدتُ أضعافها مرتسمة على ملامح أستاذنا. بمشاعر أب قبل أن يكون مدرباً، وقف يدير الأمر بهدوء معجون بخوف.
جاءت أولى البشائر؛ مكالمة تفيد بسلامتهم وتحرّك سيارة لنقلهم إلى المخيم، تبادلنا نظرات الاطمئنان، كلٌّ منا يحاول البحث عن فكرة تطمئنه بأنهم جميعاً بخير.
مرت دقائق عصيبة، وصلت السيارة، بدَوْا منهَكين كما لو كانوا عائدين من معركة؛ بل هم بالفعل كذلك، لا أعرف من أين استدعيت طاقة المرح في تلك اللحظة! وجدتُني أجترُّ حكايات مفرحة في دقائق بدت دهراً رسمت بخطوطها ظلالاً على وجوههم وحتماً تركت في الروح ندبة، فما أصعب النجاة من موت مفاجئ فكأنك تموت لتحيا! على قدر خوفنا وقصور نظرتنا لحكمة الخالق من إخفاء موعد الموت، إلا أنها نعمة عظيمة ربما نموت ملايين المرات لو علمنا متى نموت وكيف!
"ليس هناك أغرب من الموت، إنه حادث غريب، أن يصبح الشيء لا شيء"، هكذا وصف الدكتور مصطفى محمود لغز الموت في كتاب يحمل الاسم ذاته، وأكمل بعد أن قدم شرحاً لما يحدث في استعدادات الجنازة: "إن عملية القلق على الموت رغم كل هذا المسرح التأثيري هي مجرد قلق على الحياة". يبدو الوصف دقيقاً لدرجة غريبة، فنحن عندما نفكر في الموت دوماً نقيس على تلك الأشياء التي سنفتقدها في الحياة، كيف ستتوقف أنفاسي؟ كم سيستغرق اعتيادي تلك المساحة الضيقة التي سيتركونني فيها؟ ماذا سيحدث لأبنائي بعد رحيلي؟ مَن سيفتقدني عندما أغيب؟ وهكذا، تتوارد الأسئلة وكيف لا نفعل وهي الأشياء التي نعرفها جيداً! غرقت بضع دقائق في تلك الأفكار، علا صوت العائدين من الموت فاستعدت ابتسامتي وضغطتُ زر التسجيل في آلة تصويري، ليسردوا تفاصيل لحظاتهم الخطرة!
وقعت عيناي على ريم في البداية، تلك الفتاة التي تبدو قوية ولكنني أشعر بضعفها الآن أكثر من أي وقت مضى، كم أودّ أن أحتضنها! لكني أعرف أنني لو فعلت ذلك الآن لخرَّتْ باكيةً بكل ما نعرفه عنها من قوة، وحتماً هي تكره ذلك. رقيقةٌ هي رغم ما تُخفيه دوماً خلف ستار الفتاة الجسور، تركتْ مصر لتعمل في تركيا وحدها وسافرت مؤخراً لتواصل البحث عن حلمها في نيويورك، ولكني أراها كيمامة رقيقة ترجو راحة ولو قصيرة على كتفي أمها الراحلة، أو مَن يستطيع تعويض قدر من ألم فقدها.
باسل، بدا ثابتاً كرجل دِين تعرض لاختبار إيماني، رغماً عنه ارتسمت علامات ذهول على وجهه، بدأ يحكي كيف أنقذ ريم من غرق محقَّق، ثم غرق في تفكير عميق، ربما يتذكر الآن كيف نجا، ولماذا وما يجب أن يراجعه بعد هذا الاختبار؟
ضحك عُتبة عندما واجهته الكاميرا وتلألأ شعره الأحمر كأنما يحتفل بنجاته، وقد تغيرت ملامحه بلا نظارته الطبية التي تعودناه يعتمرها ليخبرنا بأنه خاض معركة النجاة من دونها، ومن بين كل الذكريات ستظل تلك النظارة عالقة في ذهنه فلم يفقدها في مقهى أو على شاطئ المصيف؛ بل طمع فيها نهر سخيٌّ.
واصل عُقبة مناكفته عبد الرحمن واتهمه بأنه السبب فيما حدث، وقال إنه يحمد الله أنه لم يلقَ حتفه في نهر طويل ببلاد بعيدة عن سوريا، تلك التي يرجو وصال ترابها.
فيما ردّت ابتسامة عريضة من عبد الرحمن على مزحة صديقه واسترسل يصف تلك اللحظة التي سقط فيها في الماء، قال "إن عمره مرّ سريعاً، فيما سقط شخصان فوقه فظل يصارع ليطفو مجدداً!". وعندما سألته وقتها عمن شغل تفكيره في تلك اللحظة الحاسمة، فأجاب: "عقبة وعتبة".
بدا محمود قوياً كشابٍّ تمرّن على مثل تلك النوائب، فيما ظلت مسحة خوف ترتسم على جبهته العريضة، ربما يفكر الآن في سهولة مُصابه مقارنة باختبارات غيره.
وقفت سلمى كأنها تراجع ما حدث، بدت كمن تحدّث نفسها عن تلك اللحظات التي لم تسردها كاملة، ربما تراها مُزحةَ قَدَرٍ عادية في عالم اعتادت ضرباته فحاولت أن تهزأ منه بابتسامة ارتسمت على ثغرها. بجوارها، كانت مريم تحكي ما حدث وفي عينيها ملامح حزن ربما ليس مصدره التجربة؛ بل لعدم قدرتها على تسجيل تلك اللحظات بآلة تصويرها لتكون جزءاً من فيلم قادم عن تجربة موت لم تتم.
أما جهاد، فكان بأناقته كاملة كما تعوّدناه، وقف يحكي بداية لحظات الغرق كأنه يسرد فيلماً خرج للتو من مشاهدته في صالة للعرض السينمائي.
وحدها براءة ضحكت بصوت عالٍ كفتاة عابثة تُخرج للحياة لسانها ببراعة، وماذا لو مررت بتجربة موت! ربما ستحكي لخطيبها ما حدث في لحظات عابرة؛ لتواصل مسيرتها في حياة تعرف أنها ستمر ببساطة تناسب غضاضة فتاة تنتظر زواجاً وشيكاً لا موتاً مفاجئاً!
تناوب الجميع الحكْي سريعاً، فيما نستمع لهم في ذهول حامدين الله على سلامتهم. أشعر بدقات قلب أستاذنا وأعرف أن ابتسامته ليست على طبيعتها، كانوا على شفا موت محقَّق وقد أرسلهم بنفسه إلى النهر، ربما هي ابتسامة حمْد وتفكّر، تُرى هل كان يتخيل أن هذه المخاطر ستحيط بتسليتنا أم كان يدرك أنه يُخَيّرنا بين الحرب والغرق؟! أم هي مجرد صُدف وخيارات عارضة؟ كم بات المخيم يشبه الحياة: خيارات محدودة وتحولات مفاجئة!
استمع الأُستاذ لهم جيداً، ابتسم وتنفّس بعمق، ثم طالبهم بسرعة الاغتسال واللحاق بالغداء، فها قد انتصف اليوم بالكاد وما زال في جدولنا الكثير لنُنهيه، كنا منهَكين بعد ليلة طويلة في المونتاج وها قد تعرضنا لاختبار آخر ويجب أن نواصل، كنا قد أنهينا تناول طعامنا فقررنا تبادل الحكْي حتى يلتحق بنا الآخرون، كاد اليوم ينتهي هنا، ولكن ما حدث مساءً غيّر أمزجتنا جميعاً!
يمكنكم الإطلاع على السلسلة من خلال الروابط الآتية :
في حضرة الحكاية "1"| هل صادفت الشغف؟!
في حضرة الحكاية "2" | لا تنسَ.. أحضر قلبك معك!
في حضرة الحكاية "3" | عن ورود حياتنا وأشواكها
في حضرة الحكاية "4" | غامر… لا تدع الخوف يأسرك!
في حضرة الحكاية "5" | فكر جيداً.. ماذا ستترك من أثر؟!
في حضرة الحكاية "6" | ضع حياتك على خط النار
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.