ليس بعيداً عن شارع 29 أيار -وهو واحد من أهم شوارع العاصمة دمشق- وبمجرد الدخول إلى الحارات الخلفية، ستظن نفسك أنك دخلت فجأة إلى مدرسة خلال فترة الاستراحة، والسبب هو العدد الكبير للأولاد الموجودين هناك، والذين يلعبون بعضهم مع بعض أو يحملون حقائبهم المدرسية عائدين من يومهم التعليمي.
المنطقة التي كانت تُعرف بأنها من أكثر مناطق دمشق هدوءاً، أصبحت اليوم مليئة بالمُهجَّرين القادمين من مختلف المناطق السورية، والذين حطّوا الرحال في فنادق الحي.
وهذه الفنادق في غالبيتها صغيرة لا يتجاوز تصنيف أفضلها الـ3 نجوم، كما أن بعضها كان مخصصاً لمن كنّ يسمين "الفنانات" وهنَّ فتيات أجنبيات أو عربيات كنَّ يعملْن في الملاهي الليالي غادرْن جميعهن تقريباً البلاد بعد الأزمة، فقرر أصحاب هذه النزل فتح أبوابها لأبناء البلد مقابل مبالغ بسيطة، لتتحول لاحقاً غرفها إلى ما يشبه البيوت، تضم العائلات النازحة.
القاطنون في الجوار يتعاطفون مع القادمين الجدد الذين اضطرتهم الظروف إلى ترك بيوتهم وحياتهم القديمة، ولكنهم في الوقت ذاته يشتكون من التغير الذي أحدثوه في حياتهم.
ضجيج غير محتمَل
توضح إحدى نساء الحي -وهي سيدة في الخمسينات، فضّلت عدم الإشارة إلى اسمها- أن أكثر ما يزعجها وجود الأطفال الدائم في الشارع ولعبهم وما يحدثونه من ضجيج وصراخ يقلق راحتهم.
وتضيف لـ"عربي بوست"، أن "المنطقة كانت معروفة بالسابق بكونها هادئة ولا ينتشر الأطفال في الشوارع"، وتتابع السيدة أنه "لا يمكن لوم هؤلاء الصغار؛ فهم يقيمون بغرف صغيرة ولا يملكون أي متنفَّس لهم، لهذا يضطرون إلى اللعب في الشارع بالقرب من مكان سكنهم".
ويشتكي علاء الحمصي -وهو طالب جامعي- من الإزعاج الذي يتسبب فيه الكبار قبل الصغار، فبسبب ظروف حياة هذه العائلات الصعبة تزداد المشاحنات فيما بينهم.
وبحسب الحمصي، فإنه "غالباً ما يتشاجر أفراد هذه العائلات ويمتلئ الحي بأصواتهم، وفي أحيان أخرى ينظمون احتفالات أو يسهرون محدِثين ضجة كبيرة لا تراعي الجوار".
ويضيف لـ"عربي بوست"، أنه "عادة يحاول سكان الحي تجنّب الاحتكاك بهؤلاء الوافدين أو حتى مطالبتهم بعدم الإزعاج؛ خوفاً من التورط في مشاحنات ومشاكل؛ لأن النزلاء عبارة عن خليط مجهول بالنسبة للسكان الأصليين، وقد يضم من بين ما يضم متسولين أو مجرمين، بالإضافة لعائلات عادية".
ويتابع الحمصي أن هذه الفنادق كانت في الأصل مشغولة من قِبل الأجنبيات، ولكنَّ الأخيرات كنَّ يخضعن لأنظمة تمنع خروجهن بشكل دائم إلى الحي، وغالبيتهن يعملن في الليل بالنوادي والمطاعم وينمْن في النهار.
ولكن رغم عدم الاحتكاك الكبير ما بين سكان الفنادق وسكان المنطقة الأصليين، فإن ذلك لم يمنع من مبادرات عمل الخير التي نظمها البعض، واشتملت على تقديم مساعدات لهذه العائلات المنكوبة، وخاصة في المناسبات كشهر رمضان والأعياد وافتتاح المدارس.
فرز مهني وجغرافي
لم يقتصر وجود النازحين على هذه المنطقة، ففنادق المرجة وشارع الثورة (وسط دمشق) امتلأت أيضاً بأعداد كبيرة من الوافدين، ومع الأيام فُرزت هذه الفنادق، فبعضها يضم مواطنين من ريف دمشق وبعضها من دير الزور وأخرى من حلب، ولم يقتصر الفرز على المناطق الجغرافية وحدها وإنما شملت مهن النزلاء.
وتقول سيدة نازحة من المعضمية إنها في بداية الأزمة سكنت هي وعائلتها في أحد فنادق المرجة، ولكنها اضطرت لاحقاً إلى تغيير مكان إقامتها بسبب توافد بعض العائلات الغجرية إلى الفندق، وهؤلاء نزحوا بدورهم من ريف دمشق أو مناطق أخرى، وهم في غالبيتهم يعملون بالتسول والسرقة.
وتشرح السيدة لـ"عربي بوست" بأنها خافت على نفسها وعلى أولادها من وجود هذه العائلات، وحينما تواصلت مع إدارة الفندق مطالِبة بعدم استقبالهم، لم يُبدِ المسؤولون أي تعاون، لهذا قررت الانتقال والمغادرة.
وتضيف أن الإقامة بالفنادق صعبة للغاية؛ فجميع أفراد العائلة يوجدون في غرفة واحدة، ما يجعل الخصوصية معدومة وحتى سبل الراحة غير ممكنة، وهي تضطر إلى الطهي في المكان نفسه، والفسحة الوحيدة للنزلاء هي بهو الفندق، لكنها تفضل عدم الجلوس فيها؛ فهي تشعر دائماً بالقلق من الغرباء، ولا تعرف ظروفهم أو طباعهم، لهذا تفضل البقاء بعيدة.
تبادل الطعام مع النازحات
"في الفندق نفسه، تعرفتْ إلى سيدة قادمة من زملكا، أقامت في هذا الفندق منذ أكثر من 3 سنوات، وبعد هذه السنوات الطويلة تآلفتْ أكثر مع المكان حتى إنها بَنَتْ علاقات اجتماعية مع نزلاء آخرين رافقوها في بداية نزوحها، وهي تتبادل مع السيدات النازحات وجبات الطعام، ويتسامرْن مساء في بهو الفندق.
تبتسم ساخرة وتقول: "هذا المكان أتاح لنا فرصة التعرف على عادات جديدة لم نكن نعرفها من قبل، دون أن تنكر صعوبة في هذه الغرف، ولكن صعوبة وضعهم المادي دفعتهم للتكيف والبقاء في هذا الفندق".
وتوضح لـ"عربي بوست" أن الفندق لا يقدّم لهم الخدمات الحقيقية التي تقدمها الفنادق عادة بسبب انخفاض أسعاره، فهم يعانون انقطاع الكهرباء كبقية المناطق في دمشق ويستخدمون وسائل إضاءة بسيطة خلال فترة التقنين، كما أن التدفئة ليست متاحة واضطروا إلى شراء مدفأة خاصة بهم، بالإضافة إلى مروحة تخفف عنهم عبء الحر في الصيف.
وفي غرفتها، قسمت هذه السيدة المساحة الصغيرة إلى عدة أجزاء، فقد استغنت عن "الأَسرّة" واستبدلتها بالنوم على "فرش" تُمد على الأرض ليلاً وتجمع فوق بعضها في النهار، وفي زاوية أخرى تكدست ملابسهم بحقائب، بعضها مخصص للملابس الشتوية وبعضها الآخر للملابس الصيفية، وتضيف ساخرة أن وجود خزانة عبارة عن رفاهية لا يحق لهم الحلم بها، فبالإضافة إلى ثمنها لا تملك أي مساحة لوضعها.
قرب باب الغرفة، وضعت ما يشبه الغاز وبعض الأدوات المطبخية، بالإضافة إلى طاولة صغيرة، تخبرني بأن أكبر معاناة لها هو موضوع الغسيل، فقد عادوا بالزمن للوراء وهي تستخدم طريقة جدتها بالغسيل يدوياً، وتضيف أنه رغم الصعوبات الكبيرة التي يعيشونها فإنهم يحاولون الاستمرار على أمل العودة ذات يوم.