ما زلت أذكر تلك الساعة التي اضطرب فيها الأمر، تلك الردود الباهتة والكلمات الفاترة، وذلك الصمت الذي غلّف جواً كان ينتظرُ الكلام، لا أذكر بعدها أننا تلاقينا أو أن ثمّة قولاً جارحاً كان وراء هذا الانقطاع، ما الذي حدث؟ لا أدري! ما الذي أطفأ كل هذا الوهج في نفوسِنا وأبدله بذلك الكمّ من اللامبالاة؟! دعنا نفكّر في الأمر:
أنا لم أقل شيئاً سيئاً، وأنت لم تفعل، فلِمَ كان الجرحُ من الأساس والنصلُ لم يكن حاضراً؟! .. سأقول لك: أنا لست مِنك بمنزلةِ الآخرين، وأنت كذلك، لذا فما يجرحك مني ليس مما يجرحك من الآخرين، وأنا كذلك.
اختصاراً: أنت لم تُسمعني ما يستدعي الضيق، لكنّه استدعى، وأنا لم أقل ما يجرح، ولكنّك جُرِحت، أنا لم أسمعك كما ينبغي من الأساس فلم أتكلّم بما ينبغي، وهذا كل شيء.
في العلاقات التي تقوم على التبادل المعنوي والشعوري في المقام الأول لا يتأثّر الأمر إلا باضطراب هذه العلاقة التبادلية من العطاء والاحتواء، أنت تشعر بخيبة الأمل وأنا يتوجّب عليَّ أن أنزع عنك هذا الشعور، والعكس.
لكن أنت تشعر بذلك، وأنا لا أشعر أنك تشعر بذلك، أنت لأنك تشعر بذلك، تُصدر ردوداً باهتة لعلّي أنتبه، وأنا لا أنتبه البتة، أنت تُخرج هذه الكلمات؛ لأنك في حالةٍ لا تسمح بإخراج ما هو أفضل، وأيضاً لا تسمح لك مكانتي في قلبِك بقولِ ما هو أسوأ، أنت تفعل ذلك وأنا يتوجّب عليَّ في هذه اللحظة -وليس غيرها- أن أعي وأفهم، أن أضمّك إلى صدري بكلمةٍ طيبة وابتسامةٍ نقيّةٍ تقول لك: "افعل ما شِئت فأنا هنا ولن أرحل.
أنا مساحتك التي يتمدد فيها حزنك وسخطك وألمك فأحتويك ولا أضجر، أنا مَهربك وملجأك الذي لا يُسيء الظنّ ولا يُسطِّح الفَهم، اضطرب ولا تعبأ فأنا هنا، وانطفِئ وافتر كما يتبّدى لك وأنا سأوقِد سِراجك من جديد.
أنت تحتاج ذلك، وأنا ينبغي أن أُعطيك، وأنا لا أفعل، لا أفهم، لا أرحم، لا أحتوي، آخذ كلماتك التي تجثم على مِشعلنا لتطفئه، وأضع عليها ردّي الذي يُكرر الأمر، أرى في عينيك الدمع تحبسه ولا أفهمه، أسمع في صوتِك رجاءً يسألني وصل ما تقطعه أنت.. أنت تقطعه بلا إرادة منك، وأنا لا أصِله على قدرةٍ منّي.
أنت لم تبتعد.. أنا فقط الذي لم أقترب بالقدرِ الكافي.
الحاصل في النهاية أننا نبتعد، وأن ودّاً كان له في القلبين عمل يتلاشى وكأنّه لم يكن.. هل انتهى كل شيء؟ ربّما لا.
هل ما زلت قادراً على الإحياء؟
أسألُ نفسي كثيراً في كلِّ مرّةٍ نظرتُ فيها إلى قريبٍ قد ابتعد وحبيبٍ قد فتر، أسألُ نفسي كثيراً في كلِّ مرةٍ تشتدُّ بي حاجتي وأعدم تجلّدي الذي أورثني كِبراً -غالباً- قد نما أيضاً في قلبِ من كان يوماً معي هنا ولم يعد كذلك.
أسألُ نفسي وأُكرِّر، وليس بيني وبين الذي مضى عنّي ومضيت عنه سوى كلمةٍ دافئةٍ تنفث الروح فيما دُفِن.. كلمةٍ وفقط، ولا يشترط فيها أن تكون اعتذاراً أو عتاباً، فقط كلمة تقال لمن رحل إنّه لم يكن ينبغي له الرحيل.
كل الذي بيني وبين الوصلِ هو أن أتجاوز الأزمة إلى ما وراءِها، فأرقى عنها إلى أصلِ الأمر، إلى ذلك الرابط الخفي الذي لم ينقطع وإن بدا في ظاهره الهلاك، فيسود الإبقاءُ على الإفلات ويطغى ما في قلوبِنا على ما صدر رغماً عنّا فنُرغِمه.
أغلب النهايات يمكن تأخيرها إذا كنّا نُحسِن الوصل، وكلّ النهايات يمكن إعدامها إذا أحسنّا إحياء البدايات.
كلّ الذي انتهى لم يكن لينتهي لو أن أصحابه أرادوا عكس ذلك، وكلّ السقطات لم تكن لتطول إذا أردنا القيام.
نتخاذل طوعاً؟ نعم.
الكِبر؟ هو.
كل ما هُنالك أنّي أحتاجُ أن أعود إليك بعدما فارقتني ونجلسُ معاً، ثم أنظرُ في عينيك اللتين لم أفهم أنينهما السابق، وأُشعِل الذي انطفأ بابتسامةٍ تحمل اعتذاراً عن كل ما سبق، ثم أضمّك تلك الضمّة التي تخاذلتُ عنها يوم الرحيل، تلك الضمّة التي تقول لك ما عجزتُ بالأمسِ عن قولِه: "كان ينبغي أن تفعل ما تشاء ولم يكن يليق بي الرحيل. أعتذرُ عن عدم كوني مساحتك التي يتمدد فيها حزنك وسخطك وألمك، وعن كوني ضجرت ولم أحتوِ.. عن أنّي لم أكن هناك حينما تحتّم علي أن أبقى، وعن يدي التي أطفأت النور الذي خبا منك ضيُّه، ولم أنتبه.
كل ما هنالك أنّي أحتاج الذي احتجته أنت من قبل: أن تبقى وأبقى، وكلّ ما في الأمر أنّني بدأتُ التخلّي يوم ضِقتُ بِك، وأنّه وجب عليَّ المبادرة بأن أسعك في قلبي من جديد، وأن أكون كونك الذي أردت سُكنته ولم ينفتح بابه إليك، فاعذرني على طفولةِ صبري، وامنحني قلبَك الذي صدأ فأجلوه، ولا تبتأس.
أيا رفيقي الذي كان معي.. عُد فإنّي لن أبتعد.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.