على مدى ثلاثة أشهر، واظبت مع ابنتي الصغيرة على حضور تدريبات الباليه الخاصة بها، حيث كان من المفترض أن تشارك في احتفالات الكريسماس الخاصة بقسم الباليه في مدينتنا الصغيرة. تأتي صغيرتي في كل مرة بعد التدريب لتريني تلك الحركات الجديدة التي تعلمتها اليوم، حتى جاء يوم التدريب الأخير قبل العرض الرئيسي، وتم السماح لنا كأهالٍ بمشاهدة التدريب ومتابعته.
لم تكن صغيرتي العربيةَ المسلمة الوحيدة في مجموعتها، حيث ما زالت في مجموعة المبتدئات، ولكن تشاركها في المجموعة فتاة لبنانية ترتدي والدتها حجاباً عصرياً، يُظهر من شعرها أكثر مما يُغطيه.
بمتابعة الأطفال كافة من جميع المجموعات، تستطيع أن تعرف أن عدد الأجانب يزداد يوماً بعد يوم، فلم يعد الألمان وأبناؤهم هم أصحاب الغالبية العظمى في أي نشاط.
جاء اليوم المنتظر أخيراً، كانت ابنتي تشعر بسعادة غامرة، فهو عرضها الأول على الإطلاق، فلم تشارك مسبقاً في شيء مثله. قبل العرض مباشرة، وقفت ابنتي بجانبي ومعها زميلتها اللبنانية، حيث إن والدتها تركتها لتحضر شيئاً ما، ولم تكن قد عادت بعد، وحيث إنها تتحدث العربية وإن كان بلهجة لبنانية، كنت أحاول محادثتها بكلمات قليلة من لهجتها حتى لا تشعر بأنها بمفردها في المكان.
على الكرسي المجاور لي، كانت تجلس والدة طفلة في المجموعة الأكبر مباشرة من صغيرتي، تتابعني باهتمام، وتتابع كلماتي العربية مع الفتاتين. المرأة يغلب على هيئتها ما يجعلك تعرف أنها قادمة من مكان ما قريب من شرق آسيا أو وسطها، تتحدث الألمانية بشكل جيد جداً، ورأيتها عدة مرات أثناء إحضار ابنتي للتدريب، إلا أنه لم تكن هناك غالباً مناسبة ما لمبادلة الحديث معها.
بعد وقت قصير من متابعتها لي، وجدتها تسألني عن الفتاتين، وهل هما ابنتاي، فأشرت إلى ابنتي وأخبرتها أنها هي فقط ابنتي، فعادت لتسأل من جديد إن كانت زميلتها اللبنانية تقرب لي شيئاً؟ وعندما أجبتها بالنفي أوضحت سبب سؤالها، بأنني أتحدث معها كثيراً. فأخبرتها أن والدتها غير موجودة حالياً، وبما أننا نتحدث اللغة نفسها تقريباً فهذا يعطي الفتاة قدراً من الألفة أثناء انتظارها لوصول والدتها.
بعد دقائق قليلة من الصمت، وجَّهت سؤالها إليَّ من جديد: هل أنت مسلمة؟ أجبتها بالإيجاب، نعم أنا مسلمة، ليأتي بعدها الحوار الأساسي الذي كانت الأسئلة السابقة جميعها مجرد تمهيد مسبق له.
"أليس الباليه حراماً في الإسلام؟ لماذا تجعلين ابنتك تلعبه إذا؟" كان هذا سؤالها لي، لأجيبها بأن ابنتي البالغة من العمر أربع سنوات ما زالت صغيرة، وإن أحبت أن تمارسه بعد أن تكبر فربما يمكنها ممارسته في مكان لا يوجد فيه رجال أجانب عنها، وحينها لن يكون في الأمر مشكلة ما، فالباليه في حد ذاته ليس حراماً في الإسلام، كل ما في الأمر أن الإسلام يضع قواعد محددة للفتاة البالغة، عليها أن تسير عليها في حالة وجود رجال حولها، فإن التزمت بتلك القواعد فلن يكون في الأمر مشكلة.
"إذا ما الأمر مع السباحة؟ هل تتعلم ابنتك السباحة؟ وهل ستسمحين لها بممارستها؟" أجبتها بأنها بدأت بالفعل في تعلم السباحة، وعندما تكبر يمكنها ارتداء البوركيني وتمارس سباحتها به، بما أنه سيغطي جسدها بكامله فلا مشكلة في ذلك، المشكلة التي تواجهني حالياً أن حمامات السباحة في ميونيخ لا يسمح بعضها بارتدائه للأسف، والسباحة به، لكن السباحة في حد ذاتها يمكننا إيجاد حلول لتمارسها بما يوافق دينها.
بعد صمت دقيقتين …" أنا من أفغانستان" عادت للحوار مجدداً، لأسألها إن كانت مسلمة، فتجيب بالإيجاب، وتعود لتقول "في أفغانستان كل شيء حرام، السباحة حرام، وركوب الدراجات حرام، يجب أن ترتدي الحجاب وإن لم ترغبي في ذلك، ولا يسمح لك بأن تفعلي أي شيء مما تريدينه"، ابتسمت وأخبرتها في النهاية أنت وحدك من سيحاسبها الله على أفعالها، ولن يحاسبوا هم جميعهم معك.
تطرق الكلام ما بيننا حتى وصلنا لنقطة، عندما تكبر ابنتك وترفض ارتداء الحجاب، أو تصر على الاستمرار في رقص الباليه كما تريد هي، فكيف سيكون رد فعلي؟
كانت إجابتي عليها وقتها بأنني كأم وظيفتي أن أوصل لأبنائي قواعد دينهم، وما يأمرهم به، وما ينهاهم عنه، وأترك لهم في النهاية حرية الاختيار، فإن أرادت هي أن ترتدي الحجاب فسيكون مما يسعدني كثيراً، وإن لم ترد ذلك فلها حريتها في النهاية، وينطبق الأمر على كل أمر آخر، بما فيه الباليه والسباحة.
بعد عودتي إلى المنزل تفكرت في حواري معها كثيراً، ما تربَّينا نحن عليه أن الوالدين عليهما أن يجبرا أبناءهما ليلتزموا بتعاليم الإسلام كما يعرفونها هم، فإن لم يكن برضا الأبناء فسيكون عن طريق التهديد والوعيد والعقوبات، وربما الضرب أيضاً أحياناً. فهل هذا هو ما عليه الأمر فعلاً، ولماذا جعل الله للبالغ حساباً مختلفاً عن حساب الطفل؟
لقد وضع الله لنا قواعد لكيف يمكن للمسلم أن يتعامل مع أبويه الكافرين، وكيف يتعامل مع أبنائه الكافرين (الكافر هو من يؤمن بدين آخر غير الإسلام، أياً كان هذا الدين)، قواعد أساسها مرتبط بالمواريث وفترات الحروب، أما في الأوضاع العادية فالحياة تستمر بينهم، والود والتعامل بالاحترام والحب موجود، ولا يجب أن نقاطعهم لأنهم على دين آخر غيرنا.
فإن كان هذا لمن هو على دين مختلف تماماً معك، فكيف إن كان ابنك أو ابنتك مسلمين، إلا أنه يمارس حقه الذي كفله الله له في حرية الاختيار في كيف يعيش، سواء بالالتزام بكامل تعاليم الدين، أو الالتزام ببعضها. أليس هذا أولى بحسن معاملته، والاستمرار في الود له، عسى أن يهديه الله لما يحبه سبحانه يوماً ما.
لقد كفل الله للإنسان حرية العقيدة وحرية الاختيار، وكل سيأتيه في الآخرة فرداً، فمع وصول الإنسان لمرحلة البلوغ سيكون حساب الله له بمفرده، فلن يتم حساب والده معه على أفعاله، ولن يتم حساب والدته على ما فعله في حياته بعد ذلك.
نعم على الآباء أن يبذلوا ما باستطاعتهم مع أبنائهم، على أمل أن يكمل الله لهم هدايته بعد اختيار كل منهم لطريقه. نربيهم على أن الإسلام دينهم، والقرآن كتابهم، وأن الالتزام بما جاء في الكتاب وسنة رسول الله هو طريقهم، مع الاستمرار في الدعاء لله أن يشملهم بهدايتهم إلى طريقه المستقيم، إلا أن الأمر في النهاية بإرادة الله وحده ورحمته وهدايته لعباده.
فازرع البذرة، واترك لابنك حرية اختيار طريقه كما يريد أن يسير فيه، مع الاستمرار على وده ونصحه إن اختار طريقاً مختلفاً عما أردته وتمنيته له أنت.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.