في ذلك الزمن حين كان العدوُّ عدواً، والصديقُ صديقاً، كنتُ أقل حزناً وكنتِ تحبينني أكثر، أتذكرين الأشجار التي زرعناها في حديقة منزلنا القديم وأطلقنا عليها أسماء أصدقائنا المقرّبين؟ أتذكرين هؤلاء الأصدقاء؟ نعم، الذين تركوا البلاد وتركوا خربشاتهم على باب بيتنا وعلى الورق المعلّق فوق خشبه المعتّق؟ أتذكرين القطّة التي ولدت في حديقتنا، وآلاف البراغيث التي جاءتْ معها وعشّشتْ تحت الدرج؟ أتذكرين حين رأيناها تزحف على أرجلنا كيف تساءلنا: من أين جاء كلّ هذا النمل؟ ثمّ كيف دبّ الذعر فينا حين عرفنا الحقيقة وكيف ركضنا يصدم بعضنا بعضاً، وكم بعد هذا ضحكنا؟ أتذكرين حين ضممتكِ يومها وقلتُ "أحبّك" كيفَ قلتِ بغنجٍ: "أي عادي، أنا أصلاً بنحب" أتذكرين القبلة التي لحقت بتلك العبارة كالقضاء والقدر؟ في ذلك الزمن كانت العصافير تأتي إلى شرفتنا لتشرب الماء وتلعب، أتذكرين كيف كنّا ننتظر قدومها كلّ ظهيرة وكيف قلقنا وتساءلنا حين تأخر أحدها ذات يوم: لماذا لم يأتِ؟ أين ذهب؟ ثمّ كيف صرخنا بفرح حين رأيناه فوق الجدار "يتغندر"؟ في ذلك الزمن كنتُ أذهب إلى السوق وأعود حاملاً بعض الخضار وباقةً من النرجس أو المضعف، وكنتِ تفرحين حين أقول اشتريتها من تلك العجوز التي تحبينها، والتي تقولين لها كلّما مررنا بها: "كيفك تاتا"؟ فترد باسمةً: أهلاً وسهلاً، أهلاً وسهلاً، ثمّ تضحك فيظهر سنّها اليتيم من فكّها الأعلى كأنه نُسي هناك فبدا كعلامة تعجّب؟! أتذكرين باقة "الزوفا" التي اشتريناها ذات يوم وكانت آخر ما اشتريناه منها! إذ ماتت بعد أيام وظلّتِ الباقة معلّقة في مطبخنا تذكّرنا بها وكيف صرنا نقول كلّما رأيناها: الأشياء أبقى من الإنسان.
في ذلك الزمن كان الوقت يمشي بطيئاً وكنّا نستلقي وقت الظهيرة بعد الغداء على الحصيرة وسط الصالون وندردش قليلاً، ثمّ نغفو على طنين الذباب وصراخ أطفال الحي وهم يتشاجرون فتعلو أصواتهم وتنخفض وفقاً لمزاج الأقوى، ثمّ نستيقظ متيبِّسي الظهر والأطراف ونشاهد آثار الحصيرة مطبوعة على أجسادنا فنمسّدها بأيدينا وتؤلمنا فنضحك حتّى الشّفاء؟
في ذلك الزمن كان هناك الكثير مما يستحق أن يُذكر: المسلسلات السورية، النشرة الجويّة، فساتين النساء الصيفيّة، رائحة الهواء، صوت جرس الباب "البيانو"، قرص الهاتف الدوّار، انشغال النّاس بصناعة حلويات العيد، التعب اللذيذ بعد العمل، راديو "مونتيكارلو" و"لندن".. في ذلك الزمن كانت الأحزان ألطف، كان الحزن يطرق بابنا فنفتح له ونبكي حين نراه فيخجل، في ذلك الزمن كان العدوُّ عدواً والصديقُ صديقاً، وكنتُ حزيناً حقاً، لكنّني كنتُ أجمل.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.