في صغري كنت أحفظ بعض الأحاديث النبوية الشريفة التي كانت مقررة علينا في المناهج الدراسية، ومنها الحديث الشريف الذي ورد في الصحيحين: "دخلت امرأة النار في هرة حبستها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض"، وبشكل عام كنت أرى في هذا الحديث دعوة للرفق بالكائنات الحية، ولكني كنت أستغرب بعض الشيء من عظم العقوبة، كيف تدخل امرأة النار في قطة؟! حتى وإن كانت هذه المرأة من الصالحات مثلاً.
ما هي إذاً معايير الفلاح والنجاح في الدنيا؟ ما هي معايير النجاة من النار في الآخرة؟ تساؤلات كثيرة لم أجد لها إجابات، وبعد ثلاثين عاماً أعدت قراءة الحديث بنظرة أخرى، فوجدت عجباً وحكماً ومنهاجاً.
تبين لي بأن الله -عز وجل- خلق ذوات الأرواح جميعاً، وعلى رأسها الإنسان؛ لتكون حرة بالمعنى الحقيقي لمصطلح الحرية، فتسعى في هذه الدنيا وهي حرة، وتقودها فطرتها السليمة لتحقيق ذاتها وهي حرة، والبحث عن المأمن والمأكل والمشرب وهي حرة، فإن وُفقت في ذلك وهي حرة فنعمة من الله، وإن لم تُوفق وهي حرة وهلكت فأمرها إلى الله خالقها ومالك هذا الكون والمتصرف فيه.
ومن هنا بدأت أحصل على إجابات عن بعض تساؤلاتي عن عظم الجرم في حبس الهرة وألخصها في التالي:
قمع الحريات، كيف لمخلوق أن يقمع حرية مخلوق مثله؟! كيف لمخلوق أن يعطل سنن الله في كونه؟! كيف لمخلوق أن ينازع الله في ملكه وخلقه وتصريفه تعالى لأمور المخلوقات؟! هذه هي الجرميات التي تدخل صاحبها النار وليس موت الهرة تحديداً، وإنما حدث موت الهرة بسبب العبث بمقدرات السنن الكونية وقمع الحريات التي كفلها الله تعالى لجميع المخلوقات من أدناها إلى أعلاها.
منع الحقوق، من أراد يرعى كائناً حياً وينقله من عالم الحريات الذي يعيش فيه والرعاية الإلهية ضمن ملكوت الله الواسع فليعطِ هذا الكائن الحي حقه كاملاً، وإلا حمل وزره، من قُدر له بأن يرعى عائلة فليعطِها حقها وإلا أثم، من قدر له أن يدير أمور جماعة فليعطِهم حقوقهم كاملة، ويقيم العدل فيما بينهم، ولم يغب هذا الفكر عن سيدنا عمر بن الخطاب لما كان خليفة للمسلمين، عندما قال: "فوالذي بعث محمداً بالنبوَّة لو أن سخلة ذهبت بشاطئ الفرات لأخذ بها عمر يوم القيامة إنه لا حرمة لوالٍ ضيع المسلمين".
اتضح لي أن الحرية ليست مجرد حرية رأي أو حرية تعبير أو حرية اختيار، الحرية الحالة الوحيدة التي يقبلها الله -عز وجل- لتعامل خلقه مع بعضهم، سواء كانوا أنعاماً أم أناسي، وأن أسس الرعاية تستوجب منح الحقوق كاملة للرعية.
لفتة أخرى في هذا الحديث لها علاقة بالرحمة؛ إذ إن هذه المرأة كانت تستمع إلى نداء الهرة تطلب أن تغيثها وترحمها وتطعمها أو تعطيها شربة ماء وتراها تتألم وتتقلب من شدة الجوع والعطش، ومع ذلك لم يرق قلبها ولم ترحمها، هل الجنة محرمة على أصحاب القلوب القاسية؟ هل تفسد قسوة القلوب الأعمال الصالحة؟ وبالمقابل هل تصلح رقة القلوب الأعمال الفاسدة وتمحو المعاصي والسيئات؟ ألم يرد في الحديث الشريف عن أبي هريرة، قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "بَيْنَمَا كَلْبٌ يُطِيفُ بِرَكِيَّةٍ قَدْ كَادَ يَقْتُلُهُ الْعَطَشُ إذ رَأَتْهُ بَغِى مِنْ بَغَايَا بَنِى إسرائيل فَنَزَعَتْ مُوقَهَا فَاستقَتْ لَهُ بِهِ فَسَقَتْهُ إِيَّاهُ فَغُفِرَ لَهَا بِهِ" رواه الإمام مسلم، قال الحسن البصري: المؤمن يجمع إحساناً وخوفاً والمنافق يجمع تقصيراً وأمناً.
قال تعالى في كتابة العزيز، في سورة الأنبياء، واصفاً نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم: "وَمَا أرسلنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ"، بأسباب رسالته ينتفع العالم كله الدواب والشجر والجن والإنس والحيوانات، فهو رحمة للعالمين جميعاً، وإذا كنا مسؤولين عن حمل الأمانة وتبليغ الرسالة، فيجب أن ينتفع العالم كله بأسباب تلك الرسالة القائمة على أسس الرحمة والتراحم، وإلا كنا مقصرين بحقها.
وإذا تساءلنا هل ينتفع أحد في العالم بما يقدمه المسلمون اليوم من نتاج رسالتهم؟ هل ينتفع الدواب والشجر فضلاً عن الإنسان نفسه؟ هل نقدم مفهوم الرحمة ونصدره للعالم بهذا الفكر الحضاري الذي نصت عليه آية صريحة في كتاب الله؟ أم أن الظلم والعنف والقهر والقمع وأكل الحقوق والاستبداد والفساد هي عناوين عريضة تتصف بها العلاقات والمعاملات في الدول الإسلامية في عصرنا الراهن؟ هل يعد الإحسان حلماً على مر تاريخ الشعوب الإسلامية لم يعمل به إلا فترات قليلة؟ هل وُجد الفهم الحقيقي لرسالة الإسلام بشكله المثالي في عقول المفكرين الذين طرحوه فقط؟ هل من منفذ لتلك الأفكار؟ من أين ومتى؟
كان توجهي في هذا المقال لأن أسرد بعض المفاهيم، وأطرح الكثير من الأسئلة لتحريك فكر القارئ، فيبدأ بالبحث عن إجابات ويباشر عملية التغيير الإيجابي نحو منهج رباني بفهم صحيح لأسس الرسالة المحمدية ولواقع الحياة الاجتماعي يُبنى على:
1- الحرية.
2- أداء الحقوق.
3- الرحمة.
يجب على النخب تجديد الخطاب الديني، وإعادة شرح وتفسير مصادر التشريع بلغة علمية عملية وواقعية تخاطب الأجيال القادمة، وتحكي قصة نهضة إنسانية عظيمة نرى بوادرها عندما ينتفع بأسباب رسالتنا هرة في البيت وشجرة في الطريق، وجار كافر، وزميل فاسق قبل الأخ المسلم، عندها نستبشر بصحوة دينية تأتي بعد أن مهدت لها تلك النهضة الإنسانية.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.