ليس من عادتي أن أقرأ كل ما يقع بين يدي، لكن ثلاثية غرناطة وقعت في قلبي واستوطنت فيه. لست قارئاً نَهِماً لسوء حظي، ولم يكن لديَّ جلد على مطالعة كتب التاريخ والتنقيب فيها. كنت في أمسِّ الحاجة إلى القصص والحكايات بعيداً عن سرد الحقائق الباردة وحشد الآراء المتناقضة. كنت أبحث عمن يتحدث إليَّ لا مَن يُملي عليَّ.
وكما أن القدر يمنحك صديقاً جميلاً وفياً، فقد منحني "ثلاثية غرناطة". سافرتْ معي، عاشت في حقيبتي وباتت تحت وسادتي. وتصادف ذلك مع بداية رحلاتي إلى غرناطة، واكتشاف المدينة. عندما أمسك الرواية كنت أفرغ من الواقع إلى عالم الخيال، كنت أُولد بين صفحاتها من جديد، كمن ينتظر بفارغ الصبر أن يغمض عينيه في المساء، ويعبر من غلاف الرواية إلى عالم آخر لا يشبه الذي كان فيه. وفي كل مرة أزور المدينة، أرى أطياف أبي جعفر وسليمة وعلي وحسن وسعد ومريمة تطوف حي البيازين. أستطيع تمييز الوجوه والأصوات، ولو رأيتهم على الحقيقة فسأعرفهم.
رضوى..
شوقتني "ثلاثية غرناطة" إلى معرفة كاتبة الرواية الأديبة المصرية رضوى عاشور. كانت رسالة إعجاب خجولة عبر البريد الإلكتروني كفيلة برد يشي بتواضعها، أدهشتني بأنها كتبت "ثلاثية غرناطة" دون أن تزور المدينة أو تراها، اقتحمت الفكرة سكينتها عندما بدأت الحرب على العراق عام 1990، كانت تعيش واقعاً مريراً مؤلماً، واستيقظت فَزِعة مع قصف بغداد، على صورة الفتاة العارية التي تنحدر مسرعة من أعلى حي البيازين.
وهكذا، ولدت الرواية في القاهرة بين سقوط غرناطة وسقوط بغداد، إذا كان ثمة شيء جميل أتذكره في مسيرتي، فهو أنها أتاحت لصحفي مغمور مثلي إخراج فيلم وثائقي عن سيرتها على شاشة "الجزيرة". التقطت لها صورة فوتوغرافية في أثناء تصوير الفيلم بمنزلها وسط البلد، وأنا أسمع زوجها الأديب مريد البرغوثي ينشد "يا رضوى يا قمح الخابية الذهبي.. تنضجك الشمس المصرية خبزاً للفلاحين.. يقوتهم كي تبذر أيدهم قمحاً آخر، وتصيّره أيدهم خبزاً". كانت تقول إنها ابنة واقع قاسٍ، وإن الكتابة عندها شكل من أشكال مواجهة الموت. رحلت -رحمها الله- وتركت إرثاً لا يموت.
"رأيت رام الله"
رواية "ثلاثية غرناطة" ساقتني إلى الأديبة رضوى عاشور، وهي بدورها ساقتني إلى زوجها الشاعر مريد البرغوثي. كنت أستمتع بحكيه الفلسطيني الشجي ولا أريده أن ينتهي. بدأت بقراءة كتابه "رأيت رام الله"، وكأنني أنصت إلى أبي الذي غادر قريتنا في فلسطين مع نكسة عام 1967، وعاد إلى مرابع الصبا والشباب بعد أكثر من 30 سنة. عبر أبي الجسر الخشبي ذاته من فلسطين إلى الأردن، ومنها إلى الكويت، كما عبر "رجال في الشمس" في رواية غسان كنفاني. يروقني كثيراً هذا الشاعر المتمرد الذي يحب أن يتدخل في شؤون العالم بانتقاده، وألا يقرّ أي وضع راهن حتى لو كان جميلاً؛ لأن الأجمل ممكن دائماً. في أثناء تصوير الفيلم اختلست هذه الصورة التي تذكرني دائماً بوالدي وبرائحة الزيتون.
ثلاثية البرغوثي
مع هذا الفتى تكتمل ثلاثية عائلة البرغوثي، شاب وُلد نصفه في المنفى، ونصفه الآخر أبعده إلى المنفى. احتجاجه على غزو العراق عام 2003 أغضب السلطة الغاشمة وحملها على إبعاده خارج مصر، حمل القدس قصيدة طاف بها بين الشباب العربي، يصف نفسه فيقول:
بنفسي فتى سهل الخلائقِ طيبٌ
يمازحُ دهراً عابساً لا يُمازح
ويُكثِر قول الشِّعر في الحربِ لا الهوى
لأن الهوى لو قِيسَ بالحرب جارح
ففي كلِّ حربٍ ثَمَّ حقٌ وباطلٌ
وفي الحبِّ لا هذا ولا ذاكَ واضحُ
فإن قال لا أهوى فليس بصادقٍ
وإن قال أهوى أخجلتْهُ المذابحُ
على خجل، التقطت له هذه الصورة التي تذكرني بجيلي الذي وُلد على قارعة المنفى.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.