بالقرب من عمود إنارة بأحد شوارع عدن، اتكأت امرأة مسنّة وأسندت كتفها إلى علم الجنوب الذي ظهر على طرفه المثلث الأزرق والنجمة الاشتراكية الحمراء، وفي اليد الأخرى صورة فتى في ريعان شبابه، وعليها كُتب "ميّت.. لكنك حي في قلوبنا".
شهدت هذه المسنّة في حياتها فصولاً من الحرب الأهلية في جنوب اليمن، بدءاً من الحرب بين فصائل التحرير في الستينات، إلى أحداث 16 يناير/كانون الثاني 1986، ومن ثم حرب الانفصال 1994، وانتهاءً بحرب الحوثيين 2015، لكنها اليوم تنشد العودة إلى ما قبل الوحدة الاندماجية بعد دعوات من فصائل الحراك الجنوبي بعدن لمظاهرة أُطلق عليها "مليونية الاستقلال الثاني".
الوضع في جنوب اليمن، لا يختلف حاله كثيراً عن الفترة الماضية، فالاضطرابات الأمنية وانعدام الخدمات ما تزال هماً يؤرق ساكنيه.
واحتفل الآلاف من اليمنيين في مدينة عدن، العاصمة المؤقتة (جنوب البلاد)، الأربعاء 30 نوفمبر/تشرين الثاني 2016، بالذكرى الـ49 للاستقلال عن بريطانيا في الثلاثين من نوفمبر 1976، لكن تلك الاحتفالات تحولت إلى مظاهرة تطالب بـ"فك الارتباط".
مليونية الانفصال
تجمّع ذلك الحشد بدعوة من فصائل الحراك الجنوبي الذي أطلق عليها "مليونية الاستقلال الثاني"، التي تُطالب بانفصال اليمن عن جنوبه وفك الارتباط مع شمال اليمن بعد 26 عاماً من الوحدة الاندماجية بين الشطرين.
ولوّح المتظاهرون بأعلام دولة اليمن الجنوبي سابقاً، وأنشدوا دعوات متكررة لدولة جديدة غير أن هناك جزء اخر من الجنوبيين يرفضون الانفصال ويطمحون لدولة فدرالية في اليمن كله، مكونة من 6 أقاليم.
ومع عودة الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي وحكومته إلى مدينة عدن قبل أيام، استمرت التحضيرات للاحتفالات في ساحة العروض في "خور مكسر".، لكن خوفاً من تنفيذ أعمال إرهابية شابها، رغم الإجراءات الأمنية المشددة.
وليست هذه هي المرة الأولى التي تدعو فيها فصائل الحراك إلى "فك الارتباط والانفصال" منذ الانتفاضة التي أطاحت بحكم الرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح في عام 2011، غير أن الاستجابة للدعوة هذه المرة بدت حدثاً روتينياً للحراك الجنوبي.
وقال عماد صالح وهو أحد المطالبين بالانفصال، لـ"عربي بوست"، إن المخاوف كانت كبيرة من أن لا تسير الاحتفالات كما هو مأمول لها، فعناصر تنظيم القاعدة لازالوا ينشطون في المدينة.
وأضاف: "أعداء دولة الجنوب العربي كثيرون، ومن الممكن أن يستغلوا هذا الاحتشاد، ويرتكبوا ضدنا حماقات"، مضيفاً أنه خرج مطالباً بدولة "الجنوب العربي".
وعلى المنصة الرئيسية للاحتفالات، اصطف عدد من قيادات الحراك الجنوبي المسلح والسلمي، وعلى الجوانب رُفعت صور رؤساء ومسؤولين سابقين في الدولة التي انتهجت الاشتراكية في عمرها القصير الذي لم يتجاوز 20 عاماً.
متمسكون بالانفصال
وقال بيان للمحتجين في عدن، إن الوحدة الاندماجية مع شمال اليمن في عام 1990، كان "فخاً لدولة الجنوب"، مشيراً إلى أن القوات الحكومية "احتلت الجنوب في صيف 1994، وفرضت احتلالاً عسكرياً شمالياً صريحاً على أراضي دولة الجنوب كاملة".
ولم تدم الوحدة السلمية بين الدولتين طويلاً؛ إذ اندلعت الحرب بين الطرفين في صيف 1994، وبعدها بدأت سلطات الرئيس السابق علي عبد الله صالح في تهميش الجنوبيين، خصوصاً المعارضين لها، أما قادة الحرب في الطرف الجنوبي فقد نُفوا من اليمن.
وطالب البيان "بإعادة إعلان هوية الجنوب الوطنية المستقلة، واستعادة السيادة الكاملة على أرضه"، وجاء فيه أيضا: "ونعلن أن الخيارات أمامنا مفتوحة في استعادة حقنا في السيادة بالسلم أو بالحرب"، وتابع: "الهدف لشعب الجنوب يتمثل في استعادة قراره السيادي".
الوحدة باقية
ورغم حدة البيان، فإن كثيراً من المراقبين والمحللين السياسيين قللوا من شأن تلك المطالب، وقالوا بأن الوحدة لا تزال باقية.
وقال سامي أحمد وهو أحد النشطاء السياسيين الذين شاركوا في الاحتفالات والمطالبين بالانفصال: "أبناء الجنوب باتوا يدركون جيداً الآن أن الوقوف بصف الشرعية وخلف الرئيس هادي هو الموقف الأرجح دولياً".
وأشار إلى أنه ليس من الحكمة الآن فتح جبهات عداء دولية (في إشارة إلى دول التحالف العربي الذي تقوده السعودية الداعمة لموقف الرئيس الحالي عبد ربه منصور هادي)، والجنوب في أمسّ الحاجة للمساعدة من جميع دول العالم لتقرير مصيره وفق حل عادل.
ويشارك سامي في الاحتجاجات بما يضمن بقاء الصوت المنادي بالانفصال مرتفعاً، كما يحث الجنوبيين على الانخراط بقوة في التكتلات السياسية المنادية بالانفصال، مضيفاً: "ربما يدفعنا الحوثيون للانفصال حينها نكون مستعدين".
هل ينفصل اليمن؟
ورغم أن الدعوات السابقة تنتهي تداعياتها ببيانات مكررة، فإن المعطيات على الأرض تبدو هذه المرة مختلفة.
ويأتي ذلك بعد أشهر من حملة أمنية قادها متشددون انفصاليون لطرد اليمنيين المنحدرين من المحافظات الشمالية من عدن، فضلاً عن أن تشكيل جماعة الحوثيين وقوات صالح لحكومة جديدة موازية في صنعاء للحكومة الشرعية، يدفع في اتجاه انفصال البلاد.
وكانت حكومة الرئيس هادي سحبت البنك المركزي من صنعاء إلى عدن، ليبقى للبلد المضطرب مؤسسات حكومية موازية في الشمال والجنوب.
وقال رئيس الحكومة اليمني أحمد عبيد بن دغر الأربعاء 30 نوفمبر/تشرين الثاني، إن الحكومة الشرعية هي آخر صلة بين اليمنيين للوحدة الاندماجية، واتهم الحوثيين بالتمسك بمؤسسات الدولة، وإنشاء مؤسسات موازية، تمهيداً للانفصال.
وذكر بن دغر في تصريح نقلته وكالة الأنباء اليمنية "سبأ"، أن الحوثيين وحزب صالح "يشكلون اليوم حكومة انقلابية، و يبنون جداراً سياسياً معوقاً لعملية السلام، ويعمّقون جراح الوطن ويمزقون وحدته الاجتماعية والوطنية، ويكرّسون بناء مؤسسات حكومية موازية ".
هادي يحكم قبضته
في مدينة المكلا، كُبرى مدن محافظة حضرموت (ثاني كبرى مدن الجنوب)، اقتصرت الاحتفالات على فعالية رمزية نظمتها السلطات الحكومية في مقر قيادة المنطقة العسكرية الثانية.
وقبلها، حاولت فصائل الحراك الجنوبي تنظيم مظاهرة، للمطالبة بالانفصال، غير أن القوات الحكومية منعت ذلك، بدعوى تقويض الأمن، وقالت في بيان سابق لها: "إن تنظيم فعالية جماهيرية في حضرموت سيكون أمراً غير مسموح به، ونحذر الجميع من تبني مثل ههذه الأعمال، الهدف منها إحداث فوضى في البلد".
وتُظهر تلك الخطوة أن سلطات الرئيس عبد ربه منصور هادي ما تزال تحكم قبضتها بقوة.
ويقول هادي إن مستقبل البلاد، يتمثل في اليمن الاتحادي المكوّن من عدة أقاليم، وفق ما أقرت به توصيات مؤتمر الحوار الوطني الذي عُقد في صنعاء عامي 2013 وانتهى مطلع 2014، وكما يؤكد كل مرة: "سنقاتل على تطبيق هذا".
وقال مسؤول حكومي لـ"عربي بوست"، إن الرئيس هادي بدا ممسكاً بالجنوب، وقبل أيام قليلة قلّص نفوذ المطالبين بالانفصال.
وكان الرئيس هادي قد عزل مدير شركة النفط السابق وهو أحد المقربين من القيادي في الحراك الجنوبي ومحافظ عدن اللواء عيدروس الزبيدي، وبحسب المسؤول الحكومي، فإن أموال الشركة كانت تذهب إلى التكتلات السياسية المنادية بالانفصال.
وقال إن الرئيس هادي يُعيد هيكلة المدينة التي تعاني الاضطرابات الأمنية وانعدام الخدمات، وأن هناك بوادر بإقالة مسؤولين أمنيين، جاءوا من المكوّنات السياسية للحراك، بينهم مدير أمن محافظة عدن شلال شائع.
ويستند الرئيس إلى المملكة العربية السعودية، التي لا تزال تدعم القوات الحكومية بما فيها القوات الأمنية وتشكيلات المقاومة في المدينة، بالإضافة إلى قيادة الجيش الحكومي.
المستقبل للأقاليم
ويقول المحلل السياسي اليمني عبد الرقيب الهدياني، أحد المعارضين للانفصال، لـ"عربي بوست"، إن مهرجان عدن الانفصالي ظهر ضعيفاً وفقد الكثير من الزخم الذي كانت عليه فعاليات الحراك الانفصالي قبل سنوات.
وأشار إلى أن المعطيات والوقائع في عدن وحضرموت وكل المناطق المحررة جنوباً وشمالاً "تؤكد أن مشروع اليمن الاتحادي (كيان فيدرالي) هو الذي يترسخ على الأرض، وأن ما دونه من مشاريع منقوصة، سواء مشروع الانقلابيين أو الانفصاليين، هو في حالة تراجع وأفول".
ولفت إلى أن "المزاج الشعبي في الجنوب تغير من المطالبة بتقرير المصير إلى اليمن الاتحادي، وأصبح يخشى من المجهول والانقسامات وفقدان الرؤية التي كشفتها ممارسات الفصائل الجنوبية المسلحة في عدن والجنوب منذ عام 2011، كما أن هناك قيادات بارزة في الحراك الانفصالي هي اليوم من يحمل مشروع الحكومة الشرعية".
ويرى الباحث السياسي بشير عثمان، أن مستقبل اليمن يبقى في الأقاليم، وأن "الرئيس هادي فعلاً محكم قبضته على جنوب اليمن".
تفريغ طاقات
ووصف عثمان مطالبات الجنوبيين وقياداتهم بالانفصال مثل الرئيس الجنوبي السابق علي سالم البيض، ورئيس الحكومة حيدر العطاس، وغيرهم ممن يقيمون بالمنفى، ب"العجز السياسي"، وأنهم لا يملكون فاعلية على الأرض.
وقال: "هؤلاء يفرّغون طاقات الشباب، وقيادات تتاجر بالقضية من خلال الدعوات المتكررة للانفصال، ولو كانوا يريدون انفصالاً لانفصلوا عقب تحرير عدن، على حد قوله (حينما استعادت المقاومة والقوات الحكومية مدينة عدن بعد معارك ضد الحوثيين منتصف العام الماضي).
وبحسب الباحث السياسي، فإن الأمور بدت واضحة لفكرة اليمن الاتحادي المكوّن من أقاليم، والجميع متفق عليها.