رضوى عاشور.. “البيازين” يشتاق لك

أتمتم الجملة أكثر من مرة، أقبّل غلاف الكتاب وأضعه في المكتبة الصغيرة، بعدها أفتح فيديو على الإنترنت أستمع لشعر مريد البرغوثي في حضرة سيدة قلبه: يا زوجتي الغائبة بعيدًا أتوهم في ليلي أن النوم عميق، لكني أستيقظ كل صباح عند الفجر، فتطل مع الفجر قصيدة تسألني عنك لا أبكي.

عربي بوست
تم النشر: 2016/11/30 الساعة 07:36 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/11/30 الساعة 07:36 بتوقيت غرينتش

أن أقرر الكتابة عن رضوى عاشور فمعناه أنني سأكتب عن الحياة، فالمهمة تتطلب مني أن أعدل جلستي وأستقيم بظهري، أضع يدي فوق لوحة الحروف وأبدأ في نقل كل ما تركته ابنة النيل في رواياتها بأمانة.

وأنا أكتب لن أنسى الحب، والحرب، والموت، والذاكرة، والمرض، والمقاومة، لن أنسى تلك التفاصيل، اكتب وعيناي تعرجان إلى سماء، هناك حيث سماء غرناطة.

اليوم ذكرى رحيل أم رقية الطنطورية، كلما وصل هذا التاريخ تعيدني الذاكرة إلى سنتين قبل اليوم، أجتر ورد تلك الأحداث وأتذكر قولها: "ما جدوى استحضار ما تحملناه وإعادته بالكلام؟ عند موت مَن نحبه نكفنه، نلفه بالرحمة ونحفر الأرض.. أي عاقل ينبش في قبور أحبابه؟"، أي عاقل لا ينبش في قبر أحبابه؟ مجنون من يفعل ذلك، "ملعون أبو الذاكرة، يلعن أمها وسماءها ويوم كانت ويوم تكون".

كان الجو بارداً عندما أمسكت ذلك اليوم بالطنطورية، وهي آخر الروايات التي قرأتها لرضوى عاشور، سرت في شوارع اسطنبول أبحث عن مقهى بتدفئة لأكمل قراءة آخر صفحات الرواية.

تعودت كلما وصلت لكلمة "تمت"، التي تنهي بها الكاتبة كل أعمالها الروائية أن أقرفص أرضاً، أربط رجلي إلى صدري أضم الكتاب بقوة وأقول في سري: لا وحشة في قبر رضوى.

أتمتم الجملة أكثر من مرة، أقبّل غلاف الكتاب وأضعه في المكتبة الصغيرة، بعدها أفتح فيديو على الإنترنت أستمع لشعر مريد البرغوثي في حضرة سيدة قلبه: يا زوجتي الغائبة بعيدًا أتوهم في ليلي أن النوم عميق، لكني أستيقظ كل صباح عند الفجر، فتطل مع الفجر قصيدة تسألني عنك لا أبكي.

من لا يعرف رضوى عاشور عليه أن يقرأ "أثقل من رضوى"، أن يقرأ عن مقاومتها للمرض الخبيث أيام ثورة 25 يناير/كانون الثاني، وقبلها سفرها المتكرر بين القاهرة وأميركا للعلاج، ومتابعتها لتفاصيل إسقاط حكم مبارك على شاشة التلفزيون المقابل لتلك الأريكة في بيت تميم في واشنطن.

من لا يعرف رضوى يجب أن يقرأ "ولدت هنا ولدت هناك" لمريد البرغوثي أن يحمل قليلاً من معاناة أسرة شتتها السياسة، ولملمتها رحمة رضوى.

اليوم أكمل قراءة كل أعمالها الروائية، أحس بطعم الفرح وأنا أنتقل من فرح سليمة وسعد إلى زفاف رقية وأمين، وأستحضر طعم الفقد في رحيل أم جعفر ومريمة، أميل برأسي يميناً أرى حال هذا الوطن الكبير وأستشعر فاجعة الرحيل الذي وصفته في ثلاثيتها التاريخية ثلاثية غرناطة.

رضوى عاشور قطعة من جمال اللغة، تقرأ نفسك بين أحرفها البسيطة، كلماتها الصادقة تروي بها تاريخ النكبة والترحيل وضياع الأندلس، تحملك بثقلك على ريشة الكلمات لتلف بك على مخيمات اللاجئين في بيروت، وتطعمك على مائدة بيوت غرناطة وتجول بك وراء أسوار الحمراء.

اليوم أكتب عن ذكرى رحيلك الثانية؛ لأخبرك أن الطنطورة ما زالت تبكي رحيلك، البيازين يشتاق إليك، وأبو جعفر يحن إليك.

أكتب لأقول لك إن الصفورية وعين الدمع وصبرا وشاتيلا وبيروت والقاهرة تقبّل ناصيتك، أكتب لأقول إن الدماء استبُيحت في صيدا، وحيفا لم تعُد حيفا.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد