في بقعة فلسطينية، وفي ركنٍ من مخيم طولكرم، بمنزل صغير، هو عبارة عن غرفة متواضعة ومنافعها، وأسرة مكونة من 12 فرداً، كانت في فترات سابقة أكبر عدداً، تروي أُم بكر بعض التفاصيل من حكاية بدأت منذ 1987، حين تزوجت تلك الطفلة (15 عاماً) بعد إخفاق أهلها في إقناعها بالعدول عن قرارها بالزواج من شاب من أسرة فقيرة، يحتضن فيها إخوة وأخوات وأباً وأماً مقعدة ببيت متواضع صغير.
20 شيقلاً وبعض الأعمال المنزلية كانت البداية لمشوار طويل لم ينتهِ للآن، فـ18 شيقلاً لبذور الليف وشيقلان للفجل والبقدونس تزرعها امرأة عشرينية إلى جانب عملها في المنزل بإنجاز أمور بسيطة لبعض النساء مقابل أجر بسيط، لم يكن كافياً لكنه كان كفيلاً بحماية عائلتها من سؤال الناس، أو تخلف الأطفال عن المدرسة.
أم بكر بدأت حياتها الزوجية بشكل طبيعي "أو أقرب إلى الطبيعي" مع رجل بسيط وأسرته لمدة عامين، قامت خلالهما بأعمالها المنزلية لعائلة زوجها، وعائلتها الصغيرة التي كانت تنتظر طفلاً آخر في أحشائها بعد ابنتها البكر التي لم تبلغ العام ونصف العام بعد، ثم تغيَّرت الأمور بمرض زوجها المفاجئ جراء إصابته بفيروس بالكبد خلال عمله في فندق بالداخل المحتل، فبدأت حياتها تتعقد.
بدأت تساعد زوجها في محنته وتبحث عن أي عمل ممكن، وبمرور أربع 4 سنوات على زواجها أصبحت هي المعيلة، ولم تبلغ العشرين من عمرها، وفي تلك الفترة توفيت حماتها وصارت بذلك تعتني بحماها أيضاً.
بعد وفاة حماتها بفترة سعت لتزويج حماها لتخفف عن نفسها من أحمالها الثقيلة، وتغيّر شيئاً في حياة والد زوجها الأرمل الذي تتراجع صحته، فكان سوء حظها أن لم يطل هذا الزواج بوفاة زوجة حماها تاركة 3 أطفال احتضنتهم أم بكر وبذلك كبرت عائلتها وازداد عبؤها.
36 شيقلاً (ما يعادل 9.5 دولار) هي الآن هدف يومي تعارك أم بكر الحياة لتحصيلها لتؤمّن مواصلات ابنها للجامعة الذي بدأ بدراسة الطب بكفالة شخص من أهل الخير، بينما يكافح ابنها الكبير يومياً بعمله على معبر الطيبة لدى أحد أصحاب البسطات بأجر بسيط؛ ليؤمّن تكاليف زواجه من خطيبته، وابنها الثالث يعمل بالاتصالات ليعينها في إعالة الأسرة، بينما يرقد حماها الذي يعاني من المرض الشديد وعدم القدرة على الحركة في المنزل، إلى جانب زوجها المقعد الذي ليس بيده ما يقدمه لمساعدتها.
اليوم وبعد مرور 30 عاماً على حياة مليئة بالعمل والنضال اليومي في إعالة أسرة كبيرة لم تدخر أم بكر جهداً في الأخذ بيد كل أفرادها، نقص عددهم بزواج إخوة وأخوات زوجها تبعاً لكن أعباءها لم تنقص لتأمين لقمة العيش الحلال وتدريس أبنائها وبناتها، والاعتناء بزوجها وحماها المريضين.
لا تتردد الابتسامة في الامتثال على شفتَي أم بكر وهي تروي بعضاً من تفاصيل حياتها التي لم يذكر منها إلا القليل في هذا التقرير، ولا يبدو أنها تضايقت حين تذكرت قول أهلها عنها بأنها "مجنونة"، بسبب تمسكها بزواجها وحياة "الشقاء" التي دفعتها لبدء العمل بعمر الـ17 عاماً، وركضها المستمر للحفاظ على أسرتها.
اليوم، أم بكر هي امرأة خمسينية لا تتوانى عن تقديم المساعدة لمن يطلبها منها، والانتفاضة كانت فصلاً آخر في حياتها أضافت لتفاصيلها قدراً آخر من التضحية، بمساعدتها للمطاردين؛ حيث كانت تؤويهم للاختباء في مساحة صغيرة لديها، وتؤمّن ما استطاعت لهم من الطعام.
واليوم تفخر بطلة قصتنا بسنينها الثلاثين التي قضتها بصعوبة، لكنها نجحت بجدارة في تربية أبنائها وحمايتهم من أخطار كانت تتهدد دراستهم ومجرى حياتهم بسبب الفقر وسوء المعيشة.
خلال حديثنا قطعت تواصلنا إحدى القطط التي دخلت الغرفة بهدوء كأنها فرد من العائلة، وعلمتُ أيضاً أن للقطط الحي نصيباً من كرم هذه المرأة التي لا تبخل في إيوائها وإطعامها أيضاً.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.