مع تقدم الجيش العراقي داخل المدينة، لم ينزح السكان منها كما كان متوقعاً، فعلى الطريق الرئيسي المؤدي إلى وسط الموصل، داخل حدود المدينة، تجمعت حشود من الناس. وقفت النساء المتشحات بالسواد بجوار الأطفال الذين يرتدون معاطفهم الشتوية الملونة. جلس الشيوخ على مقاعد أمام الجدران البيضاء الملطخة، بينما يصيح صبي صغير على عربة يجرها حمار منادياً على الركاب.
كان العمل كثيراً في الأسابيع القليلة الماضية، حين كان الناس يغادرون المدينة بحثاً عن السلامة في مخيمات اللاجئين في الشرق. ولكن حركة المغادرين توقفت الآن، حسبما نشرت صحيفة The Guardian البريطانية.
كان عدد قليل من الأهالي يركبون متجهين إلى منازلهم، حاملين الطعام الذي اشتروه للتو من السوق المؤقتة، وهي أول سوق تتشكل منذ استعاد الجيش العراقي هذا الجزء من المدينة من تنظيم الدولة الإسلامية.
الهجرة أقل من المتوقع
رغم قربهم من خط المواجهة في الحرب مع داعش، ومع ضجيج الصراع المحتدم، لا يبدو أن سكان الموصل عازمون على مغادرة المدينة. حتى الآن، لم يغادر المدينة سوى نسبة صغيرة من اللاجئين الـ73 ألفاً الذين فروا من القتال، أما النسبة الأكبر منهم أتت من المدن والقرى المجاورة التي تنتشر في سهول نينوى.
على الرغم من أن الجيش العراقي لم يسيطر سوى على جزء يسير من شرقي الموصل، تشير العلامات المبكرة إلى أن الهجرة المتوقعة -التي قدرت أعدادها بنحو مليون شخص- قد تكون أقل بكثير مما كان متوقعاً، حين تتوغل القوات النظامية إلى داخل المدينة.
يقول محمد أحمد محمد، 50 عاماً، من سكان ضاحية كوكجلي، الذي كان يجلس في أشعة شمس الشتاء الدافئة مع 4 شيوخ محليين يوم الجمعة "من الأفضل لنا أن نموت بكرامة، بدلاً من أن نعيش في وحل المخيمات. ليس لدينا كهرباء أو ماء. ولكن الأمور ستتحسن يوماً بعد يوم".
كانت الشاحنات العسكرية تقطع الطريق ذهاباً وإياباً أمامه، والأسر تتجمع حول مركز المساعدات القريب. كما كان بعض الأهالي يعبثون بمحرك إحدى الشاحنات العسكرية المعطلة، وكانت الورش التي أغلقت خلال الأسابيع الستة الماضية تعاود فتح أبوابها تدريجياً.
ما الذي يدفعهم للبقاء؟
قال أنور توفيق "في الحقيقة، لقد فوجئنا بسلوك الجيش العراقي."لقد عاملونا باحترام، حتى الآن، وجعلوا الناس أكثر راحة. كنا نخشاهم قبل أن يأتوا، ولكننا الآن اعتدنا وجودهم".
كان وجود الجيش العراقي ذي الأغلبية الشيعية داخل الموصل، وهي مدينة سنية، بمثابة مسألة مثيرة للجدل قبل القتال الذي بدأ يوم 17 أكتوبر/تشرين الأول.
إذ أن التوتر الطائفي كان عالياً في السنوات الثلاث التي سبقت سقوط الموصل في أيدي مقاتلي تنظيم الدولة، في منتصف عام 2014، وكان الكثير من سكان الموصل يخشون أن تدور الحرب على أساس طائفي، وليس على أساس قومي، وكانت النتيجة زيادة الانقسام في المدينة والمجتمع.
قال مجاهد سلطان، صيدلي أعاد افتتاح صيدليته يوم الجمعة "لا نعلم ما الذي سيحدث غداً. لكن في الوقت الراهن، هناك المزيد من الأسباب تجعلنا نفضل البقاء على الرحيل. كل ما أحتاجه هو شراء المزيد من الأدوية"، مشيراً إلى الأرفف الفارغة تقريباً. ويضيف "كانت داعش صارمة جداً. لقد كانوا غير عقلانيين وشرسين. حتى نساؤهم كنّ يحملن الأسلحة".
كانت صيدليته على بعد عدة مئات من الأمتار من الخط الأمامي والبؤر العسكرية العراقية المؤقتة المنتشرة على الساحة المتربة حوله. في المتجر المجاور، يعمل أحمد طاهر ماجد حلاقاً. أحمد طالب فيزياء تخلّى عن دراسته عندما سيطرت داعش على الموصل.
يقول أحمد، بينما يقص شعر سيف ريان، 14 عاماً، "يمكنني أن أمارس الإبداع الآن. في وجود داعش كنا نقص الشعر بنفس الطريقة. لن تصدق عدد اللحى التي حلقتها. وأضاف بابتسامة عريضة "بالنسبة لي، لم يكن العمل قط أفضل حالاًً مما هو عليه الآن. لماذا أغادر؟"
هذا الجزء من كوكجلي هو معقل لأقلية الشبك، الذين اعتبرتهم داعش إسلاميين، لذلك لم تتعرض لهم. وقال مصطفى الطاهر، مشيراً إلى ظهره "إلا أننا عندما كنا ندخن. جلدوني 20 جلدة، وأجبروني على دفع 2000 دولار".
على الطريق الرئيسي، أنشئت أكشاك صغيرة. علقت اللحوم المذبوحة الطازجة على قضبان حديدية بجوار عربة يجرها حمار. كما وضعت عائلة المناديل الورقية والفاكهة على باب استعملوه كطاولة.
قال أحد الباعة "لم يكن باستطاعتنا أن نفعل هذا في ظل وجود داعش. كانوا سيطردوننا. كانوا يسيطرون على كل جانب من جوانب حياتنا".
توقفت دورية عراقية، وأشار جندي لصبي بالاقتراب منه، ثم قام بتسليمه 6 لترات من الماء لإعطائه لعائلته. شكر الصبي الجندي، بينما أعطى الماء للنساء اللاتي رفعن الحجاب عن وجوههن ليرتشفن منه.
في تلك الأثناء، سمع دوي وابل من الطلقات، ثم آخر، في سماء المنطقة. اخترق الرصاص لافتات الشوارع، وتناثر الحشد الذي كان مجتمعاً، عائدين إلى وضع الحرب، باحثين عن مخبأ يقيهم من الرصاص. كان مقر المساعدات نحو ميل ونصف داخل الخط الأمامي، وقد طهّرته القوات العراقية. كان إطلاق النار عنيفاً، وجاء من جهتين على الأقل. ثم أُطلقت قذيفتا هاون في مكان قريب.
الحافلات التي كانت وصلت لإجلاء الراغبين في المغادرة، عاودت أدراجها، مبتعدة عن ساحة القتال. إلا أن حطام الطريق إلى بر الأمان لا يبدو مغرياً بالعودة إلى الديار في أي وقت قريب.
قبل الفوضى، كان محمد أحمد محمد يتوقع أن يعود جلادوه قبل نهاية الحرب. إذ يقول "كانوا يقتلون الناس بسهولة. لم يكونوا يخافون أحداً، ولم يكن لديهم إيمان حقيقي. لقد غادروا في عجلة من أمرهم، لكنهم لم يغادروا تماماًً"، مشيراً إلى المباني المجاورة.
وأضاف "حتى وإن عادوا مرة أخرى، سوف نبقى هنا. هذه الشوارع المزدحمة تظهر أن الناس يريدون أن يعيشوا مرة أخرى".
-هذا الموضوع مترجم عن صحيفة The Guardian البريطانية. للاطلاع على المادة الأصلية، اضغط هنا.