هكذا يرانا الغرب.. شعبٌ كادح وعقلية مفكرة لكن في ظل حاكمٍ مجحف!

بين الشرقيين والغربيين تتصارع المفاهيم والقيم والمكتسبات كما "صراع الحضارات" في كتاب هنتنغتون، لا يشعر بها إلا من عاش تناقضاتها وشعر بقدرتها الفريدة على خلق حضارة انفرادية قد لا يتعايش معها بتلك البساطة، التي تبدو على كثيرين، والتي تبدأ بالصراع مع الذات، فقيمنا الشرقية تعلي من شأن العائلة على حساب صناعة الذات ومحور ارتكازها في الشخصنة لا النرجسية

عربي بوست
تم النشر: 2016/11/26 الساعة 03:08 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/11/26 الساعة 03:08 بتوقيت غرينتش

"الشرق" و"الغرب"، علاقة قديمة بقدم البحر الأبيض المتوسط ضاربة في عمق التاريخ ومناهج الحضارات المتلاحقة وصراعات الهيمنة التي لا تتوقف، كما ارتبطت بعادات وتقاليد الشعوب، والحياة والهجرة، وانصهار المعارف في بوتقة الإنسان، فـ"كلكم لآدم وآدم من تراب"، لكن أشياء تغيرت وأحوالاً تبدلت منذ نشأة الخليقة وبسط الأرض للبشرية، حتى تبدلت "القيم"، وتغيرت المفاهيم مع كل تطور بشري كان؛ في الشرق أو الغرب.

بين الشرقيين والغربيين تتصارع المفاهيم والقيم والمكتسبات كما "صراع الحضارات" في كتاب هنتنغتون، لا يشعر بها إلا من عاش تناقضاتها وشعر بقدرتها الفريدة على خلق حضارة انفرادية قد لا يتعايش معها بتلك البساطة، التي تبدو على كثيرين، والتي تبدأ بالصراع مع الذات، فقيمنا الشرقية تعلي من شأن العائلة على حساب صناعة الذات ومحور ارتكازها في الشخصنة لا النرجسية، عكس القيم الغربية التي يطغى فيها (الفرد) وصناعته خارج الأسرة ليبني حياته منفرداً، منعزلاً، يطارد قوت يومه، ويبني مستقبله بمساعدة حكومته لا بمساعدة عائلته، أما في الشرق فتذوب الحكومة وتبقى العائلة.

الاستقلالية والقرارات المصيرية

يجد الإنسان الشرقي، عكس الغربي، صعوبة في "الاستقلالية" واتخاذ القرارات المصيرية بعيداً عن العائلة، لدرجة أن أباً في العقد السابع من عمره يشتاط غضباً إن تأخر أحد أبنائه (السبعة) في تسليم راتبه الشهري إلى يديه، فهو المُعيل للأبناء وزوجاتهم وأبنائهم جميعاً؛ فهم في منزل واحد ويأكلون من المائدة نفسها، والويل والثبور والغضب الجارف لمن يفكر تفكيراً بسيطاً في محاولة الخروج عن سلطة حاكم المنزل، فالعائلة على قمة رأس الأولويات وقراره منوط بطموحات العائلة، وإن وضع طموحاته أعلى منها -كما يفعل الغربي- فسيصارع الأمواج وحيداً في ظلمات بحر الحياة، مشعلاً غضباً لم يكن يتوقعه، فلا يستطيع إصلاح إنائه المكسور مهما تقدم الزمن والعمر.

ديكتاتور في الشرق وممثل للشعب بالغرب

من ديكتاتور في المنزل إلى ديكتاتور البلاد الأكبر، بلداننا تدار باستبداديتها العجيبة، سيكولوجيا متوارثة منتقاة على قدر عالٍ من الحرفية في إنتاج الطاغية والديكتاتور، فشعبه ملكية خاصة (الشعب والأرض ملك "السلطان")، وطوال عقود بل قرون كان الهتاف "بالروح بالدم نفديك يا… رئيس"، فأباحت الشعوب دماءها للجلّاد وقدموا الثوار قرابين للسياط، ولأن فيها شعوباً ساذجة في تكوينها الاجتماعي والديني بررت ما فعله الديكتاتور بإبادة قرى بأكملها وأكمل مقابره الجماعية وذهبوا حد الاغتصاب وسلخ الجلد وإن تاهت على أحد مصائر ومناقشة مجازر وحوادث، فـ"سيسي" مصر و"بشار" سوريا و"شاويش" اليمن صالح ما يزالان يجريان تلك المجازر والعذابات بحق أوطاننا، أما "القذافي" فقد لاقى مصيره المحتوم، ففظائع ما ارتكبه يفوق حد الجنون الذي كان يزعمه، فيبدو واضحاً من تناقل خبرات الزعماء فيما بينهم ويتبادلون المشورة في التفنن باستحكام رقاب العباد بأبشع الصور والعذابات.

امتلاك إدارة القرار

وسبب كل ذلك، أن قيادات الشرق امتلكوا إدارة القرار والعظمة والكبرياء وسطوة الزهو بالنفس وتحريك الجيش والأمن لصالحهم، وانتقاد شخصه ومنصبه مسألة أمن قومي، وعند تحركه في شوارع بلادنا تنتشر فيالق الجند كتعبيرات "حذار ممنوع الاقتراب"، فلا مجال سوى التلويح للقائد الملهَم وربّان السفينة الذي يُغرق الجميع ليقودها، ويعتقد أن له فضل الامتنان وجزيل الشكر والعرفان لكونه حاكم زمانه ومكتسب السلطة إما بالوراثة وإما بتزوير صناديق الاقتراع، فلا أمر يمر في وزارة ولا رجل أعمال يريد التجارة إلا وكان له نصيب منها، فبنى قادتنا في الشرق ثرواتهم بأموال المعدَمين والفقراء والمحرومين، وامتلأت حساباتهم السرية في بلاد الغرب، فلا برلمانات تحاسبهم ولا قضاء يحاكمهم، فكلهم يرجون رحمة قائدهم البارّ ويعملون جاهدين لخدمة مشاريعه الاستبدادية. بينما قادة الغرب لا يملكون رفاهية إدارة القرار بشكل سيئ، فهو علاوة على ارتباطه بالمؤسسات لا بعقلية القائد، فشعبه يترصد وبرلمانه يتحرك في أبسط العثرات، والقضاء سيخلعه من منصبة وسيضعه في السجن ويحوّله عبرة لمن يعد.

في مجتمعاتنا الشرقية، يحكمنا القائد حتى موته ليظهر نجله المصحوب بالأوسمة والترقيات قائداً بديلاً، وكما تُورّث قيادة الدولة تورّث بقية مؤسساتها ليصنع كل مسؤول ابنه خلفاً يطاع ويأمر حتى لو كان في مراهقته. ومن دون موت القائد الهمام، يسقط بانقلاب عسكري يصنع شاكلته، أو ثورة شعبية تقتلع النظام وتبقي دولته العميقة ليعود النظام السابق بأبشع صورة حاملاً الانتقام كبرنامج وهدف وقانون وسلطة وأمن وجيش. فيما قاداتهم في الغرب يخرجون من مناصبهم بعد سنوات لا تتجاوز الثماني، يعودون لممارسة أعمالهم؛ فمنهم الطبيب في المشفى والأكاديمي في الجامعة، فخلال فترة حكمهم لا يملكون حق البطش ولا يستثمرون في آلام أمتهم ويعبثون بكرامة وطنهم ويبيعون مستقبل شعوبهم، فيمشون في الأسواق ويركبون الحافلات العامة وينامون في منازلهم آمنين مطمئنين: "حكمت فعدلت فأمنت فنمت"، كما قال الأعرابي لعمر بن الخطاب عندما شاهده تحت شجرة آمناً مطمئناً وحذاؤه تحت رأسه.

العقلية الكادحة

من وجهة نظر الغربيين، نحن أصحاب الشرق نملك عقليات كادحة، تلهث وراء متاعب الحياة، وتعيش لتؤمّن مستقبل العائلة، وكيف لا يكونون كذلك وحكوماتنا تجيد كل فنون النهب والعبث فلا تأمين صحياً يحميهم، ولا تقاعد يوفر لهم حياة كريمة، وتعليم أطفالهم على نفقتهم لا نفقة السلطة! فهل يجيد الشرقيون فن الاستمتاع بالعطلة وكل هذه الهموم تؤرق حياتهم، حتى لو عاشوا ردحاً من أعمارهم في الغرب. لا يلقي أبناء الشرق بالاً لعطلتهم السنوية أو الأسبوعية؛ فهم يبقون قرب أعمالهم حتى وإن اختلفت طبيعة الأفراد وعقلية المجتمع، بعكس الغربيين الذين يتحررون من مواطن إقامتهم ليغادروا في عطلتهم إلى دولة أخرى للسياحة أو لتفقد مواطن السياحة في بلدانهم، فينتظرونها بشوق ويستعدون لها طوال العام، أما في الشرق ففي الكفاح والكدح من "المهد" إلى "الحد".

روحانية الشرق ولا شيء في الغرب

أهم ما يميزنا -نحن الشرقيين- هي الروحانية والتدين وارتباطنا بالله (مسلمين ومسيحيين)، فنؤمن بالتدين كمحرك عصبي لبقاء أنظمة الحياة والتسيير الرباني لشؤون الفرد، لنجد الخلاص بالحياة الأخرى في "الجنة" الموعودة والبُعد عن النار، فيما انسلخ الغربيون من الروحانية ليصبحوا مثل كمٍّ هائل من الأرقام التي تتحرك والأشكال الهندسية التي تضيع في بحور هائجة من الأسئلة، ولأن الروحانية تصنع قيماً مساوية للفطرة السليمة فالشعور بالمراقبة العليا يبعدهم عن "الظلم" و"الغش" و"السرقة" و"البطش" على من يماثلونهم، لا خوفاً من القانون؛ بل خوفاً من العقاب الرباني، وعكس الغرب فالخوف من القانون هو ما يسير قيمهم، فمجرد انهيار السلطة الأمنية يحدث انقلاب الشعب على نفسه، بعكس الشرق.

مع كل ذلك، استطاع الشرقيون العيش بالغرب رغم منغصاتهم، في تطورات متلاحقة لمرحلة الصهر الثقافي (Assimilation) وأصبحوا جماعة اجتماعية-ثقافية جزءاً من جماعة اجتماعية-ثقافية أخرى، فأثروا حتى على قيمها ووصلوا إلى مراكز متقدمة في صناعة القرار السياسي فيها، في عملية أوصلت بعض الجماعات الشرقية في الغرب إلى التثاقف (Acculturation) بتغيير سماتها كسمات غربية رغم كونها لم تتخلَّ عن طابعها الشرقي.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد